الطبيعة والعلوم البيئية > زراعة

هل تزيد مشروعات الرّي الكبرى الأمطار أم العكس؟

طوّع الإنسان الأرض ومواردها المختلفة لخدمته ولم يكن في البداية مهتماً ولا قادراً على معرفة التأثير الذي تحمله نشاطاته المختلفة والتي قد تكلف البيئة ومستقبل الجنس البشري غالياً. كانت الزراعة في مقدمة نشاطات الإنسان الهامة، ونلحظ اليوم انتشار مشاريع الري الضخمة في العديد من البلدان بغرض زيادة الإنتاج الغذائي لمواجهة الجوع والحصول على عائد اقتصادي أفضل حيث تبلغ حصة الزراعة نحو 70% من المياه العذبة التي يستهلكها الإنسان. إلا أن التوسع في هذه المشاريع يمكن أن يحمل تأثيراتٍ غير متوقعة ويقع على عاتق العلم والعلماء بحث هذه التأثيرات وفهمها والعمل على السيطرة عليها في وقت مبكر.

أثبتت الدراسات السابقة أن استعمالات الأراضي غيرت أنماط المناخ المحلية حول العالم، واهتمت بعض الأبحاث بتأثير المشاريع الكبيرة للري والتي تطورت بشكل مضطرد على هطول الأمطار على النطاق المحلي. وصدر مؤخراً بحث جديد من قسم الهندسة المدنية والبيئية في معهد ماساتشوستس التقني يتناول أثر مشاريع الري الكبرى على أنماط الهطولات المطرية المحلية في واحد من أكبر مشاريع الري حول العالم وهو الثاني من حيث المساحة في أفريقيا بـ 890،000 هكتار في العام 2008.

لماذا تم اختيار هذا المشروع في الدراسة؟

يقع مشروع "الجزيرة" في وسط السودان جنوب منطقة التقاء النيل الأزرق بالنيل الأبيض في منطقة مناخية انتقالية بين الصحراء في الشمال ومنطقة السافانا الشجرية في الجنوب ومما شجع إجراء هذه الدراسة إمكانية التوسع بمشاريع الري مع توفر الظروف الاقتصادية والاجتماعية الملائمة، إضافة لأن الدول المحيطة تعتمد إلى حد كبير على الزراعة في اقتصادها حيث أن تأثير الري على موازنة الطاقة والرطوبة يمكن تمييزه بسهولة عند المقارنة بالظروف الجوية المحيطة. يضاف إلى ذلك عدم توفر مشروع ري مماثل من حيث الحجم يمكن من خلاله دراسة التأثير المتوقع على المناخ المحلي.

إجراء البحث ونتائجه:

تضمن البحث إجراء محاكاةٍ تعتمد على المعلومات النظرية المتوفرة حول التفاعل بين الظروف الجوية السائدة والتغييرات التي يتسبب بها الإنسان على الظروف المحلية ثم مقارنة نتائج هذه المحاكاة بالقياسات المسجلة للظروف الجوية منذ العام 1930 والتي تضمنت درجات الحرارة الهطولات المطرية وغزارة الجريان في الأنهار.

تم في البداية تمثيل الظروف الجوية باستخدام برنامج للمحاكاة في حالتين الأولى بلا ري والثانية مع وجود مشروع الري وكانت الغاية من هذه المرحلة سرد آثار الري على الهطولات المطرية بالاعتماد على المنطق والمعرفة النظرية.

توقع النموذج انخفاضاً في درجة الحرارة بحدود 3-5 درجات في المنطقة المروية مقارنة بالمناطق المحيطة كما توقع انخفاضاً في الهطول المطري على المنطقة المروية مقارنة بزيادة في الهطولات شرق منطقة الدراسة في 70% من السنوات التي تم نمذجتها.

إن نماذج المحاكاة وحدها لا تكفي لإثبات التأثيرات دون وجود رصد على الواقع لهذا التأثير وهو ما تم في المرحلة الثانية من البحث. ومن الجدير بالذكر أنه لا يمكن وضع تصور عن حالة المناخ دون توفر سلسلة زمنية من القياسات تبلغ 30 عاماً على الأقل، لذلك قام الباحثون باعتماد سلسلة بيانات تمتد من العام 1930 وحتى العام 1999 مقسومة إلى جزأين كل منهما 30 عاماً ويفصل بينهما 10 سنوات هي فترة إنشاء مشروع الري المدروس.

تلا ذلك مقارنة نتائج المحاكاة النظرية بتحليل للبيانات المتوفرة على مدة 60 عاماً وظهر توافق نموذج المحاكاة مع الرصد المناخي وكانت التغيرات في الهطولات المطرية مكانياً وزمانياً متناغمة بشدة مع تطور مشروع الري الذي استهدفته الدراسة وهذا أمر نادر الحدوث في البحث العلمي ... التوافق الكبير بين المعرفة النظرية والرصد العملي للظاهرة

التفسير والآفاق المستقبلية:

عززت نتائج البحث الفرضية التي وضعها الباحثون بناء على مشاهداتهم والتي تقول أنه عند ري مساحات واسعة تنخفض درجة حرارة سطح الأرض ويزداد الضغط الجوي عندها ويترافق ذلك مع استقرار "غير طبيعي" في الطبقات الدنيا من الغلاف الجوي مما يتسبب بتقليص الهطول المطري في منطقة الري وتوليد حركة هواء جوية باتجاه عقارب الساعة تتفاعل مع الرياح الجوية السائدة مما يؤدي بالمحصلة إلى زيادة الهطولات المطرية في بعض المناطق المحيطة التي تعززها الرطوبة الزائدة والناتجة عن مشروع الري.

من الجدير بالذكر أن المنطقة التي تقع شرق مشروع الري تحولت خلال العقود القليلة الماضية إلى واحدة من أنجح المناطق بالزراعات البعلية، كما تبين زيادة في غزارة الجريان في نهر عطبرة (شرق منطقة الدراسة وهو أحد روافد النيل) مقارنة بالغزارات المسجلة في بقية روافد النيل مما قد يكون مؤشراً على امتداد تأثير مشروع الري في زيادة الهطولات على بعد كبير عند منطقة الدراسة في الحوض الصباب الخاص بنهر عطبرة.

ويشير العلماء أن دراستهم هذه لم تأخذ بعين الاعتبار التغيرات التي تؤثر بها الزراعة على الغلاف الجوي من وجهة النظر الكيميائية مثلاً وما يمكن أن تحمله من تأثير على التغير المناخي. ويؤكدون إمكانية تطوير البحث العلمي في هذا الاتجاه مستقبلاً لتحسين نظم الري بحيث نتحكم بآثارها البيئية أو نحد منها..

المصدر:

هنا