الفيزياء والفلك > فيزياء

حل "مُعضلة الجَدّ" من خلال محاكاة السفر عبر الزمن.

تخيّل أنّك استخدمتَ آلةً للسفرِ عبرَ الزّمنِ لتعودَ إلى الماضي وتقتلَ جدّك في صغرهِ. بقتلكَ لجدّك لن يكونَ لوالدكَ وجودٌ وبالتالي لن تولدَ أنتَ ولن تسافرَ عبرَ الزمنِ وتقتلَ جدّك! شيءٌ محيرٌ أليسَ كذلك؟ هذا ما يعرف بمعضلة الجد "Grandfather Paradox"، وقد حيّرت هذهِ المعضلةُ العلماءَ لوقتٍ طويلٍ، وخاصةً مناصري السفرِ عبر الزمنِ منهم، وظلّ الأمرُ على هذهِ الحالِ حتى أواخرِ العامِ 2014 عندما قامت مجموعةٌ من العلماءِ بوضعِ نموذجٍ كشفَ - باستخدامِ الفوتونات - أنّ ميكانيكَ الكمِّ قادرٌ على حلّ هذهِ المعضلةِ، وحتى إبطالِ التشفيرِ الكمومي.

نذكرُ الحفلةَ التي أقامها الفيزيائيُّ "ستيفن هوكينغ" عام 2009 في جامعةِ كامبريدج، حيثُ جلس على كرسيِّه المتحرّك ينتظرُ الحضورَ، لكنّ أحداً لم يحضر. لم يكُن هوكينغ متفاجئاً، إذ أنّه أرسلَ الدّعواتِ إلى الحفلةِ بعد انتهائها لبرهانِ أنّه لم يستطِع أحدٌ أن يسافرَ عبرَ الزّمنِ والعودةِ لحضورِ الحفلةِ، وبذلك أكّدَ توقُّعاتِه التي توصّلَ إليها عام 1992 والتي قال فيها إنّ السفرَ عبرَ الزمنَ أمرٌ مستحيل.

ولكن قد يكونُ هوكينغ مخطئاً، فالتجاربُ الحديثةُ تقدّمُ دعماً لإمكانيةِ السّفرِ عبرَ الزّمن، أقلّها من منظور رياضي. تتعلقُ الدراسةُ بجوهرِ فَهمِنا للكونِ، وتحسمُ إمكانيةَ السفرِ عبرَ الزّمنِ بعيداً عن كونِها موضوعاً لأفلامِ الخيالِ العلميّ، إذ سيكونُ لها آثارٌ عميقةٌ في الفيزياءِ الأساسيّةِ فضلاً عن التطبيقاتِ العمليّةِ مثلَ التّشفيرِ والحوسبةِ الكموميّة.

أتتْ فكرةُ السّفرِ عبرَ الزّمنِ من أهمّ النّظرياتِ الفيزيائيّةِ وهي نظريةُ أينشتاين النسبيّةِ العامةِ والتي تصفُ الجاذبيّةَ على أنها تشويهٌ للزمكانِ من قِبَلِ الطّاقةِ والكتلةِ، فمن حيثُ المبدأ فإنّ حقلَ جاذبيةٍ كبيرٍ جداً كالذي يولّدُهُ ثقبٌ أسودُ، بإمكانهِ أن يُنتجَ تَشوّهاً عميقاً في نسيجِ الزمكانِ بحيثُ ينحني على نفسِهِ مكوناً منحىً زمنيّاً مُغلقاً "CTC: Closed Timelike Curve"، أي؛ حلقةٌ يمكنُ استخدامها كطريق للسّفرِ عبر الزّمن، وهي تعبر عن مصطلح فيزيائي رياضي يقول بأن الجسيمات ضمن نسيج الزمكان المغلق سوف تتحرك مع تقدم الزمن لتعود نحو نقطة البدء.

يرفضُ هوكينغ ومعهُ العديدُ من الفيزيائيينَ فكرة الـCTCs، لأنّ الجسيماتِ الكبيرةِ المسافرةِ عبرَ CTC ستولّدُ تناقضاتٍ تُحطّمُ مفهومَ السببِ والنتيجةِ حسبَ نموذجِ "ديفيد ديوتش" المقترحِ عامِ 1991، ورغمَ ذلكَ يمكنُ تجنّبَ هذهِ التناقضاتِ التي تسبّبها CTC في المستوى الكمومي بسببِ سلوكِ الجسيماتِ الأساسيّةِ التي تتبَعُ قواعدَ مشوّشةٍ من الاحتمالاتِ بدلاً من الحتمية.

لذلك قامَ فريقٌ من الفيزيائيينَ مؤخراً باختبارِ نموذجِ"Deutsch" لأولِ مرّة. دارتْ معظمُ محاكاتهم حولَ معرفةِ كيفيةِ تعامِلِ النّموذجِ مع "معضلةِ الجدّ". فبدلاً من اجتيازِ إنسانٍ لـ CTC ليقتلَ جدّهُ، لنتخيّل جسيماً أساسياً يعودُ في الزّمن عبرَ مسارٍ مدروسٍ بحيثُ يقلبُ مفتاحاً على آلةِ توليدِ الجسيماتِ التي ولّدته (بمعنى أن يشغّلَ الآلةَ التي ولّدته). إذا قلبَ الجسيمُ المفتاحَ ستقومُ الآلةُ بإصدارِ هذا الجسيمِ في الـ CTC، أما إذا لم يُقلب المفتاحُ فإنّ الآلةَ لن تصدرَ شيئاً. لا يوجدُ في هذا السيناريو يقينٌ قطعيٌ مسبقٌ لإصدارِ الجسيمِ، وإنما توزيعٌ للاحتمالاتِ فقط. بإسقاط رؤى"Deutsch" على إنسانٍ بدلاً من جسيم، سيولَدُ هذا الإنسانُ باحتمالٍ مساوٍ لـ 1/2 لقيامِهِ بقتلِ جدّهِ، وسيكونُ لدى الجدِّ احتمالٌ يساوي 1/2 أيضاً للهربِ من الموتِ على يدِ حفيده، وهذا جيدٌ بما يكفي من وجهةِ نظرٍ احتماليةٍ لإغلاقِ الحلقةِ والخروجِ من تناقضِ الجدّ.

درَسَ الفريقُ في المحاكاةِ نموذجَ "Deutsch" باستخدامِ التفاعلاتِ بين أزواجٍ من الفوتوناتِ المستقطبةِ في نظامٍ كموميّ مكافئٍ رياضياً لاجتيازِ فوتونٍ واحدٍ لـ CTC، فقامُوا بتشفيرِ الاستقطابِ بحيثُ يمثّلُ أحدُ الفوتوناتِ تفاعلاً سابقاً للفوتونِ الأولِ، فبدلاً من إرسالِ شخصٍ عبرَ حلقةٍ زمنيةٍ، نصنعُ شبيهاً مزدوجاً (أصلياً) لهذا الشّخصِ ونرسلُهُ عبر محاكي الحلقةِ الزمنيةِ لنرى إذا كان المشابهَ الذي سيخرجُ من الحلقةِ يشبهُ تماماً الشخصَ الأصليّ كما كانَ في تلك اللحظةِ في الماضي

بقياسِ حالاتِ الاستقطابِ للفوتونِ الثاني بعدَ تفاعلهِ مع الأولِ، برهنَ الفريق على نجاحِ فرضيةِ الاتساقِ الذاتيّ "Self-Consistency" لـ Deutsch، فقد كانَ الفوتونُ الثاني الخارجِ من محاكاةِ الـ CTC مطابقاً تماماً للفوتونِ الأولِ عند المدخل. لا يتمُّ إرسالُ أي شيءٍ فعلياً عبرَ الزمنِ، ولكن تسمحُ المحاكاةُ بدراسةِ تحولاتٍ أو تطوراتٍ غريبةٍ غيرُ ممكنةٍ عادةً في ميكانيكِ الكم.

سيكونُ لهذهِ التطوراتُ الغريبةُ تطبيقٌ عمليٌ مفيدٌ جداً، ككسرِ التشفيرِ الكموميِّ عن طريقِ استنساخِ الحالاتِ الكموميِّةِ للجسيماتِ الأساسيةِ، وبذلكَ سنتمكّنُ من انتهاكِ مبدأ عدمِ اليقينِ لهايزنبرغ "Heisenberg uncertainty principle" والتي تكونُ مفيدةً في مجالِ الترميزِ الكمومي، لأن المبدأ يحظّرِ القياساتِ الدقيقةِ لأنواعٍ محددةٍ من المتغيراتِ المقترنةِ كالموقعِ وكميةِ الحركةِ، لكن إذا استطعتَ استنساخِ النظامِ فستستطيعُ فكّ تشفيره.

نموذجُ "Deutsch"ليسَ الوحيد، ففي العامِ 2009 وضعَ عالمُ الفيزياءِ النظريةِ "سيث لويد" من معهدِ "MIT" نموذجاً بديلاً أقلّ تطرّفاً للـ CTC يحلُّ فيهِ معضلةَ الجدِّ مستخدماً النقلَ الكموميّ الآنيّ وتقنيةَ ما بعدَ الانتقاء "Post-Selection"إذ يقولُ لويد " إن نظريةَ دويتش لديها تأثيرٌ غريبٌ على تدميرِ الارتباطاتِ، فمسافرٌ عبرَ الزّمنِ وفقاً لنموذجِ دويتش يدخلُ إلى كونٍ جديدٍ لا علاقةَ له بالكونِ الذي يوجدُ فيه المسافرُ في المستقبل. لكنّ تقنيةَ ما بعدَ الانتقاءِ "Post-Selection" تحافظُ على الارتباطات، وبذلكَ يعودُ المسافرُ عبرَ الزمنِ إلى الكونِ ذاتِهِ الذي يعرفُه."

إذا كان لويد محقاً فذلك سيقلّلُ من قوةِ الـ CTC في مجالِ معالجةِ المعلوماتِ. لا نعرفُ حقيقةً أيُّ النموذجينِ هو الصحيحُ، ربما كلاهما خاطئٌ وهوكينغ محقُّ في اعتقادهِ أن الـ CTC من غير الممكن أن توجدَ ببساطة.

لذلكَ ننصحُ معدّي حفلاتِ السّفرِ عبرَ الزّمنِ بأن يحتفظوا بالحلوى والشراب لأنفسِهم، لأنّ ضيوفَهم المسافرينَ عبرَ الزمنِ قد لا يأتون.

المصدر: هنا