العمارة والتشييد > التصميم المعماري

الآثار النفسية لناطحات السحاب (الجزء الثاني)

في الجزء الثاني من الدراسة سنتعرف على آراء الناقدين والمعماريين وبعض الدراسات الّتي أُجريت ونتائجها المهمة.

2-دراسات عامة:

لماذا نفكر أساساً أن العيش في الأبراج يجب أن يكون له تأثيرٌ علينا؟ بالنهاية لا يمكن للفرد أن يرى دراسات معمارية نفسية بتفاصيلها لبيوت المزارع على سبيل المثال. السبب الرئيسي هو الحداثة المطلقة. "نظراً لعمر جنسنا، السكن في مكان أعلى ومؤلَّف من عدة طوابق يُعتبر ظاهرة حديثة" كما يكتب Robert Gifford في مجلة Architectural Science Review . "هذه يغري الشخص لأن يضم الأبراج للأشياء غير الطبيعية، وقد يعتقد البعض أنَّ ما ليس طبيعياً يجب أن يكون مؤذياً بطريقةٍ ما".

على النقيض، يتحدث الأشخاص الذين يعيشون في أبنية عالية عن المميزات العظيمة للعيش في الارتفاع. يصفه الساكنون الأوائل في مبنى John Hancock في شيكاغو بقولهم "الإحساس أشبه بالعيش في الريف أو في البعد الخامس". أحد الساكنين يقول أنه أصبح يقضي وقتاً أطول مع عائلته بعد أن انتقل الى الطابق السابع والعشرين. في نفس المجال، أن "يترك أحد السكان منزله في الضواحي للسكن في البرج، قد يقوده ذلك إلى أن يبدى اهتماماً بالطبيعة بعد أن انتقل الى المدينة. حيث الآن ومع منظره الفسيح المطل على البحيرة والسماء، يستطيع أن يرى حركة الشمس فوق البحيرة، القمر والنجوم في السماء، والهجرة السنوية للطيور".

معظم الناس يعتقدون أن العيش في أبنية عالية هو أقلُّ إرضاءً من العيش في طوابق منخفضة، من حيثُ أنَّ الأبنية الطويلة تجتذب الجريمة اكثر من الأبنية المنخفضة، وأنّ تطوُّر الأطفال الصغار (عن طريق القراءة ومعايير أخرى) تكون سرعته أقل كلما ارتفعوا بسكنهم.

هل يمكن أن تشجّع الأبنية العالية على الانتحار؟! هل يمكن للشكل المعماري حقاً أن يفعل كل هذا؟ العمارة لم تكن أبداً أكثر من احتواءٍ للعلاقات الاجتماعية.

معظم الأبحاث عن مشاكل العيش في الأبنية العالية هي في الحقيقة بحوثٌ حول ،كما تصفها العالمة الاجتماعية Gerda Wekerle "المشاكل الناتجة عن تجميع العائلات متعددة المشاكل في مساكن وصمت بالعار من قبل بقية المجتمع". تم إفساد شكل العمارة العالية بشكل لا متناهي من قبل المظاهر الاجتماعية المتطرّفة. كما تقول Wekerle : "لم تعد Pruitt-Igoe ممثِّلة أكثر من مركز John Hancock للأبراج السكنية". في أماكن كسنغافورة أو هونغ كونغ، العيش في الأبراج السكنية ليست فقط المعيار، بل يُعتبر مظهر رفيع المستوى اجتماعياً. لا يجد صديق لي كبر في الطابق التاسع عشر في مبنى سكني في الجانب الشرقي العلوي لمدينة نيويورك (والذي كبر ليصبح ناقد معماري) شيئاً غريباً في ذلك، وهذا شيء طبيعي بالنظر الى الماضي، حتى أن معظم اصدقائه بالنهاية، يعيشون في ظروف مماثلة إن لم يكونوا بنفس المبنى. يقترح أنه لماذا تحتاج مرجاً كما في بيوت الضواحي، في حين أن حديقة سنترال بارك تبعد فقط 5 دقائق؟! يقول في شروط ارتفاع المباني: "لا أعتقد أن له هذه التأثير بطريقة أو بأخرى، ربما لأن معظم الأبنية المجاورة لها ارتفاعات مشابهة نسبياً، لذلك لم يكن هناك إحساس بالاضطراب."

في أواخر السبعينات، قال Fazlur Kahn المهندس الانشائي الّذي نفّذ أبراج Sears(حالياً Willis) ومبنى John Hancock :"اليوم، وبلا أي مشاكل تُذكَر يمكننا أن نبني مبنى من 150 طابقاً. أمّا فيما إذا كنا سنبنيه، أو كيف ستتلقاه المدينة، هذا ليس سؤالاً إنشائياً بل سؤالٌ اجتماعي."

بعد عدة عقود، سُئِل Mark Lavery، مهندس مع BuroHappold في دبي، في مؤتمر عن الأبراج، "ما هو رأي اللجنة في الآثار النفسية البيئية للمباني العالية؟" في جوابه، استرجع رأيKahn ، قائلاً أن الاستجابة البشرية هي فعلاً "أكثر موضوع جوهري يواجه مستقبل المباني العالية جداً."

المبنى العالي جداً، كما يقول Lavery، يأتي مع مجموعته الخاصة من الظروف الهندسية. فبعيداً عن الاختلافات الواضحة في حمولات الرياح والزلازل، هناك فكرة أنه يجب توزيع خدمات أكثر وأبعد على طول المحور العمودي. بعض الأشياء التي نأخذها الآن بشكل مسلَّم به -مثل شبكة اتصالات الهواتف القوية- تصبح مقيدة في الارتفاع. المصاعد حالياً ضمن حدودها القصوى وطالما أنها لا تزال تعتمد على الكابلات فالمكان المخصص لها يصبح ببساطة كبيراً جداً. وبذلك أصبح لدينا نظاماً للمصاعد "المحلية" و"السريعة"، حيث من الممكن أن يضطر الناس إلى تغيير المصعد مرتين أو حتى ثلاث مرات فقط كي يصلوا أو يغادروا منزلهم. تصاعدت سرعة المصاعد لتقارب 50 قدماً بالثانية -15.24 م بالثانية- على الرغم من أن Lavery يقترح أن تكون سرعة الانتقال الفعلية أقل من ذلك. إذ يبدو أنّ عدم ارتياح الناس يبدأ عندما تتجاوز السرعة30 قدم بالثانية -9.15 م بالثانية- وهناك أيضاً ارتفاع عظيم بالتكلفة لكل زيادة صغيرة في السرعة.

في مؤتمر عن المباني العالية والمساكن الحضرية عام 2012، نوّه مطوّر ملكية أنه في برج شانغهاي، ينتقل المصعد بسرعة حوالي 18 م بالثانية (على النقيض، عندما أعلن Elisha Otis عن مصعده الأول عام 1957، الشكل المدهش الجديد للانتقال العمودي كان يتحرك بسرعة 12 م بالدقيقة). لكن نوّه هذا المطوّر أنّ اشياءً أخرى تبدأ بالحدوث عند السرعة: تخسر بحدود 4% من الضغط الجوي لكل 1000 قدم -304 م- ترتفع فيها في المبنى. تبدأ أذناك بالطقطقة وبالتأكيد سيكون هناك هواءٌ أقل في أعلى نقطة للمصعد من المكان حيث بدأت".

راحة المصاعد هي فقط واحدة من الطرق للحلول الهندسية المطلوبة لتحسين التجربة النفسية الخاصة بالعيش في الأبنية العالية. تزداد تأثيرات الرياح بشكل أوضح كلما ارتفع المبنى؛ بحيث أنها مهما خُفِّضت بفعل تقنيات الكبح أو التغييرات المعمارية على واجهة المبنى، لكن يبقى العامل الإنساني هو الأكثر حسماً. تمت دراسة تحمُّل الإنسان للمباني المعرّضة للرياح بتجارب لا تُحصى باستخدام نفق الرياح (إحدى الدراسات كانت أن يهتز مكتب طبيب عيون خلسة دون علم الزوّار)، مع مُعامِلات بقيم مقبولة وُضعت في المنظمة العالمية للتوحيد القياسي ISO 6897، أوجدت أن البشر حساسون بشكل خاص لاهتزازات بتواتُرات معينة (كانت القِيَم 0.25 هرتز و 0.50 هرتز أكثر الترددات المحرضة).

تتنوع العتبات الفردية في هذا المجال: يتحمّل العاملون في المكاتب، الذين يمكن أن يقضوا وقتاً أقل في الأبراج، حركات أكثر من القاطنين. وأيضاً يشعر الأشخاص الذين يمشون بأحاسيس الحركة أقل من الناس الواقفين.

وجود الرياح القوية يعني أن البيوت في الأبراج لا تحوي شرفات أو نوافذ فعّالة. الاحتواء يعتبر واحداً من العلامات المميزة للعيش في الأبراج العالية. "لقد عرفت أبنيةً بحيث لم يأخذوه بعين الاعتبار وبنوا أبنية تصل الى 500 م (مع شرفات)"، يقولMark Lavery، "وكان عليهم أن يدخلوا و يضعوا أنظمة إنذار بقفل أوتوماتيكي للأبواب لمنع الناس من فتح أبوابهم في أيام الرياح". وبما أن الطوابق الأعلى هي الأغلى –مناظر أكثر، ضجة أقل- هنا يأتي، كما يقترح Lavery، نوع من المحدودية حيث أن المنظر لا يبدأ بالتطور مع الارتفاع، بل بالحقيقة يمكن أن يكون أسوأ. "هناك الطقس، والمنظر الّذي يمكن أن يكون مشوهاً، بحيث تبدأ بفقدان صلتك به. لا يبدو حقيقياً بعد الآن".

كما يلاحظ الناقد المعماري Joseph Giovannini "العيش في الطابق الستين مختلف. لا يوجد أصوات أرضية، ولا تفاصيل قريبة خارجاً، ولا حتى أشجار فقط المنظر الطويل وثم الهبوط".

طُلب من رواد الفضاء في مكوك ناسا الفضائي Discovery أن يرسموا مكعبات ثلاثية الأبعاد، رسموها بأبعاد عمودية أقصر عندما كانوا في حالة انعدام الجاذبية في الفضاء، فهل يمكن للعيش في السماء أن يغيّر منظور المرء للفراغ، والمسافات، والأبعاد؟!.

حتى الآن، يجب أن نعتمد بشكل كبير على الطرفة. "لدي قدراً كبيراً من الفضاء"، يقول أحد سكان برج في نيويورك ذو ارتفاع حوالي 265م من تصميم غيري، "ليست المساحة المربعة لمنزلي المعتدل ذو غرفة النوم الواحدة، بل الفضاء المحيط بي".

هل تفضّل العيش في الأبنية المرتفعة؟ هل تعتقد أنّ ناطحات السحاب تتوافق مع الحياة الإنسانية الطبيعية نفسيّاً وفيزيائياً؟

وهل توافق مع ما ورد في مقالتنا بهذا الخصوص؟

شاركونا بآرائكم

المصدر:

هنا