العمارة والتشييد > التصميم المعماري

الآثار النفسية لناطحات السحاب (الجزء الأول)

في الجزء الأول من الدراسة سنتعرف عن بعض الآراء التي انتشرت مع بداية انتشار ناطحات السحاب.

1- بدايات و آراء

هل يمكن أن يؤثّر سكننا في السماء على نظرتنا للمسافات، الفضاء، و الارتفاعات؟

"إنّ العيش في أبنية عالية يتطلّب نوعاً خاصّاً من التصرف، نوعاً كان مذعناً مكبوتاً و ربّما غاضباً قليلاَ". هكذا يقول البطل منتج لأفلام وثائقية تلفزيونية في رواية High-Rise لـِ J. G. Ballard عام 1991. وهي وراية بائسة تجري أحداثها في بناء ضخم خارج مركز لندن، والذي بعمارته العقلانية لم يستطع احتواء العفن الاجتماعي الموجود هناك بشكل كامل.

شخّص بالارد Ballard الأمراض في هذه "المدينة الصغيرة العمودية"، التي سكانها "يتعطشون للتغيرات المتكررة في المعارف، قلة الاختلاط مع الآخرين، والاكتفاء الذاتي في حياتهم حيث لا يحتاجون شيئاَ ولا يصابون بخيبة أمل".

كان لدى بالارد، الذي كان يعيش في بيت منفصل في ضاحية شيبرتون الهادئة، ميوله وتحيزاته الخاصة وشكوكه من الحياة الحضرية الحديثة. لكن هذه الرواية لم تكن تتطلّب قفزات كبيرة في المخيلة. كان يعمل بطل الرواية على فيلم وثائقي "يلقي نظرة إلى الأبعاد النفسية للعيش في مجتمع مكون من 2000 شخص منغلقين على بعضهم باتجاه السماء". ويقول "كل الأدلة التي تراكمت على مدى عدة عقود تلقي الضوء على الارتفاع العالي كبنية اجتماعية قابلة للحياة، ولكن الفعالية من حيث التكلفة في مجال الإسكان العام والربحية العالية في القطاع الخاص دفع هذه البلدات العمودية إلى السماء بعكس الاحتياجات الحقيقية لقاطنيها".

تصوّر بعض الأفلام مثل The Towering Inferno ناطحات السحاب كتجسيد متهوّر من قبل مطورين مغرورين ومعماريين نرجسيين.

قيل أن بالارد نفسه كان متأثراً بأبراج تريليك Trellick في لندن، حيث اكتمل بناء البرج المكون من 31 طابقاً لـِ Erno Goldfinger في شمال كينسينغتون عام 1972، وكان تقريباً رمزاً للتحليل المرضي الاجتماعي الحضري.

كان مجمع الإسكان العام Pruitt-Igoe في سان فرانسيسكو لـِ Minoru Yamasaki قد بدأ يُهدَم تدريجياً. كان سكان المدن كسان فرانسيسكو يقاومون كل ما يروه اجتياحاً جسدياً ونفسياً على روح المدينة عن طريق الأبنية العالية (كما نوّه أحد التقارير و هو دراسة من العاملين المكتبيين في مركز المدينة "أظهرت نسبة عالية منهم أنهم يشعرون بأنهم مضطهدون شخصياً من الأبنية المحيطة بهم"). يتهم بعض النقاد مثل Ada Louise Huxatable قائلاً أن "ربما أكثر الخصائص المزعجة في ناطحات السحاب هي لا إنسانيتها".

في فيلم Chad Friedrich الوثائقي بعنوان The Pruitt-Igoe Myth، يتذكر الناس "سقيفة الرجل الفقير" التي كانوا ينتقلون فيها، الشعور بالأمان محاطين بأشكال أخرى عديدة من السكان. لكن سريعاً تعطلت المصاعد، بدأ التخريب، وتسلل الغرباء إلى الأدراج. ناقشت Jane Jacobs أن هذه الأبنية العالية كانت "طرقات مكوّمة عالياً في السماء، لكن دون الاستمتاع بالمنظر العام للشوارع في الطابق الأرضي"، وكذلك قلة "عمليات المراقبة والكبت الممارس في شوارع المدينة".

وبشكل غريب، أبراج تريليك المُبكى عليها- والتي كانت تُعتَبَر رمزاً سلبياً مثل Pruitt-Igoe- شهدت تحولاً مميزاً: حيث تعتبر الآن من لائحة التراث ومكاناً مرغوباً بشكل متزايد للعيش فيه. أتت نقطة التحول في أوائل التسعينيات مع تشكيل اتحاد السكان تعيين مكتباً للأمن.

بدايةً، كانت منازل Robert Taylor كجدار صارم من 28 مربع برجي ضخم، رواقات خارجية مترابطة كأرضية السجون، وواجهاتها الخارجية كانت امتدادات واسعة من الخرسانة أحادية اللون.

في المدينة ذاتها، كان هناك بناءان على شكل رأسي ذرة، مارينا سيتي Marina City لبيرتراند غولدبيرغ Bertrand Goldberg، وكانا يبدوان كحاضنات مستقبلية للحياة الحضرية. عندما اكتمل بناءهما عام 1964 كانا أطول برجين سكنيين في العالم. كان الشكل الدائري لمارينا سيتي متعلقاً باعتبارات عملية من مساحة الطابق الى السطوح الخارجية، ولكن تبعاً لغولدبيرغ، هنالك شيءٌ أيضاً أعمق من ذلك "أردت أن أخرج الناس من الصناديق، التي كانت حقاً كأحياء شعبية نفسياً... هذه الممرات الطويلة ذات الأعداد الكبيرة من الأبواب التي تفتح بشكل مجهول هي أمر غير إنساني. كل شخص يجب أن يحتفظ بعلاقته مع المركز، يجب أن تكون كعلاقة الأغصان بالشجرة أكثر منها كعلاقة الخلية بقرص العسل".

كل من منازل Robert Taylor و Marina City كانا استجابات، عن طريق الخرسانة العالية، للتعبير عن الظروف الحضرية في منتصف القرن العشرين: تأمين منازل أسعارها مناسبة بشكل كبير للمهاجرين الافريقيين-الأميركيين من الجنوب الى الشمال (بهدفه المكاني كما يقول Nicholas Lehman في كتابه The Promised Land " ليبقى أكبر عدد ممكن من المهاجرين أبعد ما يمكن عن شيكاغو البيضاء"). كانت Marina City بشكل مثير للجدل الجانب الآخر من العملة: محاولة لنقل سكان أغلبهم من البيض ذوي دخل عالٍ من مركز المدينة، مدينة داخل مدينة، وحدة لوكوربوزييه، لها سوبرماركت خاصة بها، صالة بولينغ، موقف سيارات دائري يلتف تحت السكن في البناء ذاته.

كما يبدو، كان هناك مزيج من الخوف واستصعاب فكرة "العيش في السماء". من السهل أن تنظر الى كتاب المصور الفوتوغرافي Michael Wolf بعنوان The Transparent City وألّا ترى شيئاً غير اللاإنسانية، منشآت ضخمة تحوي مجسمات صغيرة لـِ Edward Hopper تقود الحياة الى العزلة التجمُّعية، يسكنون سويّةً لكن لا يعرفون بعضهم البعض.

من الممكن أن يكون هناك شيء من الارتفاع نفسه خلف هذه الضبابية. كما يقول أحد المؤلفين لكتاب Human Response to Tall Buildings نسخة 1977: "أنّ الكيفية الّتي يمكن أن يرتبط بها العزل البصري رمزيّاً بالعزل النفسي شيءٌ لا يمكن التنبّؤ به في هذا الوقت". لكنّه يقتبس من الاختصاصي النفسي البيئي Edward T. Hall " يظهر الناس كنمل من مسافة بعيدة، ويتلاشى التواصل معهم كبشر بالاختفاء بسرعة".

المصدر:

هنا