العمارة والتشييد > التصميم المعماري

تاريخ العمارة، هل لا زال له مكان في كليات العمارة؟

أثناء دراستك للعمارة لابدّ أنّك قد قضيت جزءاً من وقتك في التعرف على الأنماط والحركات والنظريات والفلسفات السابقة، إذ يتم تدريس هذه المواضيع عادةً في مواد تاريخ ونظريات العمارة.

بدءاً من الترتيب الكلاسيكي والنبوغ الحسابي لدى اليونانيين، مروراً بالظواهر العبقرية في الإنشاء والإختراع لدى الحضارة الرومانية، وصولاً إلى أساسيات النهضة المعمارية، سوف تنصدم بساعات من الحديث عن أفضل وأسوأ أنواع العمارة والنظريات المعمارية من الماضي، والحاضر، والمستقبل.

تسمح لك المحاضرات التاريخية بأن تتعلم أشياءً تتعدى تاريخ المبنى إلى الفلسفات الخارجية، والأفكار والتقنيات الثورية، هذه الأمور التي تشكل مثاليات عالم العمارة، فيما يتعلق بالفراغ، والمكان، والشكل. في الواقع نحن ننظر لتصميم الفراغ والمكان من خلال أعمال وكتابات معمارييّ ومصممي وفلاسفة الحقب السابقة. ولكي نتقدم للأمام، لابدّ أن نفهم أولاً ماذا تركنا خلفنا، بل لنستطِع التحرك إلى ما هو أبعد منه، أو تحسينه أو حتى الابتعاد عنه.

إذ لم ينشأ أي شيء في عالم العمارة والفن إلّا بناءً على شيء سبقه، نحن فقط نسعى إلى تحسين الأفكار التي تُركت لنا.

فعلى سبيل المثال حاول لو كوربوزييه Le Corbusier أن يحسن نسب الكمال للرجل الفيتروفي Vitruvian Man الذي اقترحه ليوناردو دافنشي باختراعه الخاص للإنسان الموديولي Modulor man، حيث أصبح فيما بعد أساس نظرياته وتصميماته المعمارية. وبالمثل استوحى Ludwig Mies van der Rohe من التعبير عن الضوء في العمارة القوطية اكتشافاته المرتبطة بالحد الأدنى من الكتل والفراغ. خلق كلاهما أسلوباً مميزاً بتعابيره الخاصة، بالاعتماد على المعارف السابقة.

سعى اليونانيون إلى الكمال في التعبير المعماري والفني عن طريق استعمال أشكال بسيطة مأخوذة من الطرز السابقة لخلق لغة معمارية مرادفة لثقافتهم، هذه اللغة عبرت عن العمارة بطريقة تجاوزت شكل المباني إلى الكيفية التي يعيش فيها السكان ضمن فكرة المكان، وقد بقيت العمارة اليونانية لفترة طويلة بعد انهيار حضارتهم.

كما شهدت فترة النهوض في العصر الروماني استخدام الأشكال التي ابتدعها اليونانيون في مناطق جديدة، ومن موروثات اللغة اليونانية القديمة تمّ تطوير واحدة جديدة. فعلى سبيل المثال لليونانيين ثلاثة طرز هي: الدوري، والأيوني، والكورنثي، في حين كان للرومان خمسة طرز حيث أضافوا التوسكاني الذي يكون قبل الدوري والمركب الذي يأتي بعد الكورنثي، ويظهر هذا الأمر رغبة لتوسيع الفلسفة اليونانية بلغة تستعمل أشكال الماضي في خلق مُثل جديدة.

وبعد عدة سنين، جاءت عمارة الحداثة كحركة بعيدة عن التقدم التقليدي (الكلاسيكي) في التصميم المعماري. ولتحقيق ذلك كان لا بد من دراسة واستيعاب اللغة الكلاسيكية وعناصرها من أجل تأسيس أسلوب جديد في التفكير بالمكان والفراغ. وفي النهاية تمّ الانتقال من فكرة أنّ الوظيفة تتبع الشكل في العمارة الكلاسيكية إلى أن يتبع الشكل الوظيفة، وقد ساهمت التقنيات الحديثة إلى جانب هذه الأفكار المرتبطة بالشكل وأسلوب الإنشاء في جعل هذا التعبير أمراً ممكناً.

ففي أميركا، يمكننا أن نرى أسلوب المروج الذي أطلقه فرانك لويد رايت Frank Lloyd Wright. في بداياته، تُظهر المروج إضافة إلى شكل وتدفق الفراغ بأسلوب موازٍ للّغة اليابانية المحلية. ويلمح البعض إلى أنّ Frank Lloyd Wright قد استوحى تصميمه من اليابانيين. في التعبير التصميمي، غالباً ما يكون التأثير مختبأّ في اللاوعي، مكتسباً من أهمية المكان. وتوفر دراسة تاريخ العمارة للأفراد مخزون معرفي مع القليل من الفكر الواعي، ومن دون هذه المعرفة يتراجع الإبداع وبالتالي يعاني التعبير المعماري من المشاكل.

يعتبر لوكوربوزييه Le Corbusier إلى حد ما والد العمارة الحديثة. من خلال نظرته الثورية العقلانية لكلٍّ من الفراغ والمكان ونسبهما، وقد بحث في استخدام الجسم البشري. وكما هو الحال في المدارس المعمارية السابقة حيث كان الإنسان هو محور الفراغ، فهو أداةٌ للقياس والنسب التي يمكن أن ينشأ الفراغ من خلالها. ويمكن القول أنّه في نقاطه الخمسة للعمارة، أسّس برنامجاً لخلق الفراغات والأشكال المرتبطة بها.

وأثناء محاولته لخلق تعبير جديد عن الفراغ، أبدع لوكوربوزييه فكرة عن الكمال في العمارة. ليخلق ما رآه علاقة كاملة بين الشكل والوظيفة، حيث حدّ من المساحات إلى أصغر ما يمكن، وقد أدّى ذلك إلى أنّ الجسم الذي هو أساس تصميمه، حيث كان مقيّداً بطبيعة الفراغ.

وبذلك نجد أنّ الفلسفة المسيطرة غيّرت الشكل الذي يبدو عليه المكان والفراغ جذريّاً، وقد أصبح ذلك نقطة البداية الرئيسية للغات العمارة التي تلتها.

كما أن التاريخ يعلمنا الأخطاء والنجاحات التي حققتها المدارس المعمارية المختلفة، ففي محاولات لوكوربوزييه لاستخدام الجسم البشري كوسيلة لإنتاج الفراغ، قام بالحد من التجارب البشرية وحصرها في علب صغيرة، لا تقدّم إلّا جزءاً صغيراً من الإمكانيات المتاحة، وقد فشلت هذه الفلسفة في ترسيخ الجانب الشعوري في العمارة الحديثة، ذلك الذي يسمح بالحياة والتغيير، لكنّها على كل حال كانت بمثابة القاعدة التي ستنطلق منها باقي المدارس والفلسفات المعمارية.

يرتبط التصميم مع كيفية قضاء الناس لحياتهم في زمان معين، وتتأثر العمارة بالفلسفات المسيطرة في الزمن المعاصر لها. يعطينا التاريخ نقطة البداية التي نبدع منها، فنتعلم كيف تطورت العمارة اليونانية الكلاسيكية إلى الرومانيسك، وكيف تطورت العمارة القوطية إلى الباروك، ثم الروكو، وصولاً إلى عمارة الحداثة وأخيراً إلى العمارة المعاصرة.

وهذا يوصلنا إلى استنتاج أنّ: العمارة هي دمج لكل ما سبق، دون أن يكون ذلك واضحاً في الشكل، بل بنظريات العمارة. والعمارة بتعبيرها الفني متجذرة في التاريخ. كل مدرسة أو حركة هي حوار مع سابقتها، واستجابة، وتطوير، أو ابتعاد عن سابقتها.

الأمر الرائع الآن هو أن العمارة في نقطة تحول، حيث لا يوجد توجه واحد مسيطر، مما يسمح باستخدام التاريخ كأداة لفهم أفضل لإمكانيات الفراغ والمكان.

إذاً بدون تعلُّم تاريخ العمارة في كليات العمارة، قد يغفل معماريو المستقبل عن أهمية ومغزى المدارس المعمارية السابقة ودورها في العمارة الحالية.

عزيزي المعماري تذكّر ذلك جيداً قبل حضورك الدروس المتعلقة بتاريخ ونظريات العمارة.

المصدر:

هنا