الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة

خصائص الروح الفلسفية

كانت الفلسفة ظاهرة بشرية عامة، ولكن الفلاسفة مثلهم مثل الشعراء مخلوقات نادرة لاتجود بهم الطبيعة إلا لماماً، فهل الفلسفة موهبة كالرسم والموسيقى أم هي مجرد علم كالرياضيات يحتاج لميل الشخص للإبداع فيه؟ ماذا يميز الفيلسوف عن غيره ولماذا كانوا وما زالو قليلي العدد رغم أنهم كبيرو التاثير؟ هل أي عالم فيلسوف؟ ماهي الروح الفلسفية وماذا يقصد بها؟ وما هي الخصائص المميزة للروح الفلسفية التي جعلتنا نُدخل تحت مسمى " الفيلسوف" شخصيات متنوعة أمثال سقراط، وأفلاطون، وأرسطو، والقديس أوغسطين، والفارابي، وابن سينا، وبيكون، وديكارت، وكانط، وهيغل، وشوبنهور، ونيتشه والقائمة تطول. إليكم هذا المقال.

على الرغم مما ذهب إليه " كانط " من أن " مهمة أستاذ الفلسفة لاتنحصر في تعليم تلاميذه بعض الأفكار الفلسفية، بل تنحصر في تعليمهم كيف يفكرون"، ألا إنّ العقلية الفلسفية في صميمها قلما تُكتسب عن طريق التعلم، ومن هنا فقد ذهب البعض إلى أن الروح الفلسفية هي أقرب ما تكون إلى المزاج أو الميل الشخصي، بحيث قد يصح لنا أن نقول إن الميل إلى الفلسفة هو كالميل إلى الرياضة البدنية، أو كالولع بالموسيقى، أو الرسم.

خصائص الروح الفلسفية:

إنًّ أول خاصية تتميز بها الروح الفلسفية هي الرغبة العارمة للبحث والسعي المستمر نحو المعرفة، فالفلسفة بمعناها الواسع هي البحث. والتفلسف يعني أن ثمة أشياء لازال علينا أن نراها أو أن نقولها، وأما حينما يقع في ظن المرء أن كل شيئ يمكن أن يقال قد قيل، وأنه لم يعد في وسعنا سوى أن نعود إلى هذا الموقف أو ذاك من المواقف الفكرية السابقة، فإن من المؤكد أن المرء عندئذ إنما يغلق أمام فكره كل سبيل إلى التفلسف، فالفيلسوف هو الباحث الذي لا يقنع بأي حل نهائي، والروح الفلسفية هي الروح التساؤلية التي ترفض أن تقبع داخل أي معرفة مطلقة، واثقة دائماً أبداً من أنه لا يمكن أن تكون الفلسفة هي الشيء الوحيد الذي يعرف نهاية في عالم لا ينتهي فيه أي شيء على الإطلاق.

وإنّ الفيلسوف هو ذلك الرجل الذي يشعر بأن الحقائق متنافرة، وإن كانت في الوقت نفسه متماسكة، فهو يبحث دائماً عن العقدة التي تتجمع عندها خيوط الحقيقة، ويحاول أن يمسك بها جميعاً على نحو ما تتمثل في صميم العالم، آخذاً على عاتقه أن يقول كل شيء متوخيّاً في حديثه الوضوح والصراحة، وليس من شأن الفيلسوف أن يخدع الناس، فإن الروح الفلسفية في صميمها هي أعدى أعداء الكذب والتضليل والكتمان، وإذا كان الفيلسوف كثيراً مايبدو في وسط الجماعة بمظهر الرجل الخطير الذي يهدّد كيان المجتمع، فما ذلك إلا لأنه يأبى لنفسه دائماً أن يكون مجرّد صدىً لعصره أو مجرد أسيراً لمجتمعه. وقد كان الفيلسوف في كُل زمان ومكان موضع شُبهات الجماعة، فكان مصير سقراط الإعدام، وكان مصير ديكارت العزلة والنفي، وكان مصير اسبينوزا الطرد من المجمع ...

لقد شبه بعضهم الفيلسوف بالطفل الصغير الذي لا يكاد يكف عن إثارة السؤال تلو السؤال، فهو يصر على أنه لا يرى سوى ظلمات حيث لا يرى غيره سوى أضواء! ويأبى الناس إلا أن يروا في الوجود كتاباً مفتوحاً يفسر نفسه بنفسه، في حين يحلو للفيلسوف أن يصور لنا الوجود بصورة النقوش الهيروغليفية التي تتطلب التفسير، أو الشيفرات الغامضة التي تحتاج دائماً إلى من يفك رموزها.

الروح الفلسفية تعلم حق اليقين أن ليس ثمة شيء يمكن اعتباره بيّناً بذاته، وأن ليس هناك أمر يمكن القول بأنه حقيقة أكيدة تماماً، بل كل مافي الوجود جدير بأن يكون موضع نظر ومحل اعتبار من جديد مادام على الفيلسوف أن يبدأ دائماً من جديد، وعلى حين أن الرجل العادي يميل بطبعه إلى قمع حبه للاستطلاع، وكبت رغبته في التساؤل نجد أن الفيلسوف لايكاد يكف عن إيقاظ المشكلات النائمة، وإثارة المسائل المُستكنة في أوكارها.

ولو شئنا أن نحدّد أهم خصائص الروح الفلسفية لكان في وسعنا أن نقول إنها:

• روح البحث المستمر.

• والحرية الفكرية.

• والتسامح العقلي.

• والرغبة الدائم في الحوار مع الآخرين.

• الشكّ في قيمة المعارف المحصّلة، ورفض الاستكان للآراء المسبقة، ورغبة عارمة في معاودة البحث من جديد.

• وثمة خاصية أخرى تتميز بها الروح الفلسفية عامةـ وفلاسفة العصر الحديث خاصة وهي تلك النزعة التأملية التي ينعكس فيها الفكر على ذاته لكي يختبر ذاته ويتعرف على مالديه من قدرات فالفيلسوف هو ذلك المفكر الذي يتركز جانب كبير من تفكيره حول الفكر نفسه.

وهكذا نرى أن الروح الفلسفية هي روح ديكالتية تعشق المخاطرة، وتبغض المطلق وتنفر من الثبات. إن كثيراً من العقول تميل إلى التعلق بالسكون، واليقين، والراحة الفكرية، ولكن الفيلسوف يؤثِر مخاطر البحث ومغامراته، على أي امتلاك رخيص لبعض الحقائق الوهمية، فهو يتصف بالشجاعة الفكرية، ومحبة الحقيقة، والنزاهة العقلية، والأمانة العلمية، والتسامح، والتواضع ... إلى آخر تلك الصفات الأخلاقية التي لا يمكن أن يستغني عنها باحثٌ يؤمن بقيمة العلم.

استندنا في إعداد هذا المقال على:

د.برهان مهلوبي، محاضرات كلية الفلسفة/ في جامعة تشرين.