الطبيعة والعلوم البيئية > علم البيئة

وللفساد بـُـعـْــــدٌ بيئيٌّ أيضاً

الفساد البيئي

تَسُنُّ السلطةُ التشريعيةُ في كل بلٍد القوانين والتشريعاتِ التي يتمُّ وفقاً لها تسييرُ شؤون المجتمع ومؤسساتِ الدولةِ بما فيها القوانين البيئية، حيثُ يتوجبُ أن تتقيد جميع المؤسساتِ والشركاتِ والمنشآتِ سواءُ كانت تَتْبَعُ بملكيتها وإدارتها للقطاعِ العامِّ أو الخاصّ بمعاييرَ محددةٍ لضمان أمنِ وسلامةِ الإنسانِ وبيئته.

ولمَّا كانتِ المؤسساتُ الحكوميةُ مسؤولةً عن إدارةِ منشآتٍ عديدةٍ تمسُّ سلامةَ الإنسانِ والبيئة كالمشافي ومحطاتِ الطاقةِ والمياه، وهي في نفسِ الوقت المسؤولةُ عن المحاسبة في حال وجود تجاوزاتٍ قانونية، فإنها تميلُ أكثر لانتهاكِ المعايير التي نظمتها سُلُطاتها وتكونُ أقلَّ عرضةً للمخالفةِ والتغريمِ مقارنةً بنظيراتها في القطاع الخاص.

قدّمت دراسةٌ حديثةٌ تناولت تنظيم الحكومات للسلطات المختلفة دلائلَ إحصائيةً على هذا الوضع الجليّ لكثيرٍ منّا، حيث أجرى الدراسة فريقٌ بحثيٌ من جامعة إنديانا نشرت في مجلةِ American Journal of Political Science. أكد البحث بالأرقامِ أن المنشآت العامة التي تديرها الجهاتُ الحكوميةُ لا تمتثلُ بالشكل اللازم للقوانينِ البيئيةِ التي تسُنُّها وتنظمها الحكومة نفسها مقارنةً بالمنشآتِ التي تديرها شركاتٌ خاصةٌ أو مستثمرون. كما أظهرت الدراسةُ أيضاً أن الأجهزة الرقابية الحكوميةَ أقلُّ صرامةً في تطبيق القوانين على منشآت القطاع العام، وأن هذه المنشآتِ العامة أقلُّ عرضةَ لتلقي الإنذارات والعقوبات والغرامات التي تطالُ منشآتِ القطاع الخاص فيما لو انتهكت أو خالفتِ القوانينَ والأنظمة.

ولإتمامِ الدراسة أجرى الباحثون فحصاً شاملاً لسجلاتِ عددٍ كبيرٍ من المنشآتِ بعضها بإدارة القطاعِ الخاص والآخر بإدارة القطاع العام، أُخذت مُعظم البيانات من وكالة حمايةِ البيئةِ في الولايات المتحدة الأمريكية وتضمَّنت بياناتٍ لأكثرَ من 3000 محطةِ طاقةٍ و1000 مشفى تخضعُ لقانون الهواء النظيف خلال الفترةِ بين 2000 و 2011، بالإضافةِ إلى بياناتِ أكثرَ من 4200 مرفقٍ للمياه تخضعُ لقانون مياه الشرب الآمنة خلال الفترة بين 2010 و2013.

وعند تحليل هذه البيانات تبيَّن ما يلي:

- بالنسبة لمحطات الطاقة والمستشفيات:

تميل هذه المنشآت المدارة حكومياً إلى خرقِ اللوائحِ التنظيمية لقانونِ الهواء النَّظيف أكثرَ من المنشآتِ الخاصة بنسبة 9%، وإلى ارتكاب انتهاكات ذاتِ أولويةٍ عالية* أكثرَ بنسبةِ 20%. كما أن المنشآت العامة التي انتهكت معاييرَ قانونِ الهواء النظيفِ كانت أقلَّ عُرضةً بنسبةِ 1% من المنشآتِ الخاصّة لتلقي إنذاراتٍ بالعقوبات، وأقل عرضةً بنسبةِ 29% لأن تُغَرَّم.

- بالنسبة لمرافق المياه:

تميلُ المنشآتُ العامةُ إلى خرق اللوائح التنظيمية لقانونِ مياه الشرب الآمنةِ أكثر من المنشآت الخاصة بنسبة 14%، وإلى ارتكابِ انتهاكاتٍ في عمليات مراقبةِ جَودة المياه أكثرَ بنسبة 29%. كما أن المنشآتِ العامّة التي انتهكت معاييرَ قانونِ مياه الشُّرب الآمنة كانت أقلَّ عُرضةً بنسبةِ 3% من المنشآت الخاصة لتلقِّي إنذاراتٍ رسميةٍ للتقيُّدِ بالمعايير.

لم تكن هذه النتائجُ مفاجِئة للباحثين برَغم أهميتها، ووَجَدَ هؤلاءِ في معرِض بحثهم عن التفسير لفروقاتِ الالتزامِ بالأنظمة بين الجهات العامة والخاصة أنَّ تكاليفَ التزامِ الجهاتِ العامة باللوائح التنظيمية للقوانينِ تكون أعلى من تكلفةِ تجاهلها أو خرقها، ويعودُ ذلك لصعوبةِ تأمين مصادر التمويل اللازمة لتطويرِ المنشآت العامة، لكونها تمر عبر عملياتٍ سياسيةٍ، ولأن الجهاتِ العامة التي تدير تلك المنشآت قد تستخدم قنواتها السياسيةَ للطعنِ في اللوائح التنظيمية.

كما أن تكاليف مخالفةِ اللوائحِ التنظيمية للجهات العامة أقل منها للجهات الخاصة، فهي قادرة على تأخيرِ أو تفادي دفع الغرامات، وقد تتهاون الأجهزة الرقابية في تسجيل مخالفات الجهات العامة وانتهاكاتها للأنظمةِ بنتيجةِ إدراكها صعوبةَ تأمينِ مصادر التَّمويل في القطاع العام.

ليس سوءُ تطبيقِ القوانينِ البيئية الجانبَ الوحيدَ الذي تقتصرُ عليه سلبياتُ (الرقابةِ الحكوميةِ على الإدارةِ الحكومية) بل ينسحبُ ذلك على تطبيقِ قوانينِ سلامةِ العمال وصِحتهم وحقوقهم وبيئة العمل وسياساتِ التوظيف العادل والتعاملِ اللائق مع الموظفين وغيرها. ويفتح هذا البحثُ آفاقاً جديدةً لاستكشاف جميع هذه النواحي بشكلٍ موثقٍ وعلى أسسٍ علمية.

يُحذّرُ الباحثون برَغم هذه النتائجِ من مغبّة القفز لاستخدامها مبرراً يدعمُ خصخصةَ المؤسساتِ والمنشآتِ التي يُديرها القطاع العام، فذلك قد يؤدي إلى ضياعِ المسؤولية وزيادة الإنفاقِ على البُنى التحتية. فالخصخصةُ قد تكون حلاً إلا أنها يجبُ أن تُوضعَ في سياقها الصحيح كما أنها ليست الحلَّ الوحيدَ وقد تكون الإجابةُ في تأمينِ المزيد من الحوافزِ والمساعدة للقطاع العام على الالتزام بالتشريعاتِ البيئية.

تُبدِي الدراسةُ أن المشكلةَ ليست كلّها في القوانينِ البيئية واللوائح التنظيمية، فلكلٍّ من المسؤولين وطبيعةِ النظامِ والأجهزة الرقابية دوره وربما علينا توسيعُ قاعدة خياراتنا كإسناد إدارةِ المنشآت والمشاريع بل وحتى الرقابة القانونية إلى منظماتٍ غير حكومية Non-Governmental Organization (NGO) أو منظماتِ المجتمع المدني وهي تمتازُ باهتمامها بمصلحةِ المجتمع العليا بعيداً عن الرِّبح المادي أو الروتين والفسادِ الإداري.

حاشية:

(*) الانتهاكاتُ ذاتُ الأولوية العالية: تعتمدُ وكالة حمايةِ البيئة الأمريكية مجموعةً من المعاييرِ الخاصة والمشدّدة لتحديدِ الانتهاكاتِ ذات الأثر الكبير على البيئةِ بحيث يتم العملُ على إيقافِها ومحاسبةِ المسؤولين عنها بعقوبات رادعة. ويمكنُ الاطلاع على القوانين الأمريكية الخاصّة بهذه الانتهاكات والتعامل معها "باللغة الانكليزية" عبر الرابط: هنا

المصادر:

Konisky D. M. and Teodoro M. P. (2015). When Governments Regulate Governments. American Journal of Political Science: n/a-n/a. هنا

هنا

هنا