المعلوماتية > روبوتيك

الروبوت العالِم!

يُمكن للمرء أن يرى الفيزياء على أنها هندسة عكسية للطبيعة، فمن خلال استخدام المعطيات المُلاحظة في الطبيعة يُمكن استنتاجُ نماذجَ رياضية تنبُئية لأنظمة فيزيائية ومن ثم إيجاد أوجه التشابه بين هذه النماذج لتحديد قوانين فيزيائية.

لكن هل يُمكن أن نقوم بأتمتة هذه العملية؟ هل يمُكن لحاسوب أن يستنتجَ قوانين فيزيائية؟

في بحث نُشر شهر أغسطس/آب الماضي من قِبل باحثين من جامعتي «وسكونسن» و«إموري» الأمريكيتين، خطا فيه الباحثون خطوةً صغيرة إلى الأمام في البحث عن طريقة آلية لاستنتاج النماذج الرياضية، إذ تمكنوا من تعليم الحاسوب طريقةً فعالةً لاستنتاج قوانين من الطبيعة باستخدام معطيات متسلسلة زمنياً لأنظمة ديناميكية بدءًا من الحركة البسيطة للأجرام السماوية وصولاً إلى الطقس والعمليات البيولوجية المعقدة.

جزء كبير من عمل العالِم هو تخمينُ قوانين الطبيعة الكامنة خلف نظام ديناميكي ما والعمل على تلخيصها في معادلات رياضية تُستخدم لبناء تنبؤات، ثم اختبار هذه المعادلات والتنبؤات من خلال التجارب، ولذلك، تُعرَف الخوارزمياتُ التي تحاول محاكاة العملية السابقة باسم «الروبوت العالِم»!

في حين أن السعي لبناء روبوتٍ عالِم حقيقي، أو بكلمات أخرى ذكاء صنعي عامٍّ لا يزال حلماً بعيدَ المنال، إلا أن هذه الخوارزمية تُمثل توجّهًا ومحاولةً لحل هذه المشكلة. فلنا أن نتخيلَ وجودَ نظام حاسوبي يساعدنا في عملية التخمين، فكم ستزيد بذلك عملية الاكتشاف!

يقول الباحثون أنهم تجاوزا أيَّ خوارزميةِ استدلالٍ موجودة مسبقاً، لأنهم يركزون على الحصول على حل تقريبي للمشكلة بأقل معطيات ممكنة. ففي بحث سابق أجراه باحثون بيولوجيون في جامعتي «فاندربيلت» و«كورنيل» الأمريكيتين، قاموا بتطوير نظامٍ برمجيٍّ لأتمتة العمليات البيولوجية، وقد بنوا بواسطته نموذجًا يحاكي سلوكَ الخلية. لكن المنهجَ الذي اتبعوه كان معقداً وبطيئاً وعدد المتغيرات القادر على تعقبها كان محدوداً جداً.

أما بعد اختبارِ الخوارزمية الجديدة هذه، قال الباحثون أنها تزيدُ سرعة العمليات الحسابية بمئة ضعف، كما أنها توفر طريقةً لبناء نماذج موجزة وفعالة تسمح بالتنبؤ والتحكم بالنظم المعقدة. وقد أطلق الباحثون على هذه الخوارزمية اسم «السير إسحاق» تيمنًا بالعالم إسحاق نيوتن، الذي يُعدُّ مثالًا تقليديًّا لكيفية تحقيق المنهج العلمي من تشكيل للفرضيات ومن ثم اختبارها من خلال النظر في البيانات والتجارب.

خمَّن نيوتن أنه يمكنُ تطبيق قواعد الجاذبية المطبّقة على سقوط تفاحة على حركة قمر في مدار. وقد اُستخدم لصقل وتحسين تخمينه البياناتِ والاختبارات وتوصل إلى قانون الجاذبية. إذ استطاعت هذه الخوارزمية بنجاح اكتشافَ قانون الجاذبية العام الذي وضعه إسحاق نيوتن.

لاختبار هذه الخوازرمية، قام الباحثون ببناء نموذجِ نظام شمسي عن طريق توليد مجموعة من المسارات العددية للكواكب والمذنبات التي تدور حول الشمس. في هذا النظام الشمسي المبسّط، تقوم الشمس بجذب الكواكب والمذنبات إليها فقط. قاموا بعد ذلك بتدريب الخوارزمية على كيفية البحث من خلال مجموعةٍ من القوانين المحدودة بشكل كافٍ لتُختبر عمليًا والمرنة بشكل كافٍ أيضًا لتشرح العديد من الأنظمة الديناميكية المختلفة. ثم قاموا بإعطاء الخوارزمية بعضَ مساراتِ الكوكبية المنمذجة وطلبوا منها أن تُجيبَ على التساؤل التالي: كيف يُمكن لهذه الكواكب أن تتحرك؟ كانت الإجابة ببساطة قانون الجاذبية العام، ليس تماماً لكن بدقة كبيرة، كان فيها الخطأ صغير جداً.

كما تمكنت الخوارزمية من استنتاج أن القوة (قوة الدفع أو الجذب) تُغير من السرعة أيضًا وليس الموقع فقط. إنه ببساطة قانون نيوتن الأول الذي يقول "يظل الجسم في حالته الساكنة (إما السكون التام أو التحريك في خط مستقيم بسرعة ثابتة) ما لم تؤثر عليه قوةٌ تغير من هذه الحالة"، إذ أن معرفةَ الموقع البدئي لكوكب ما من أجل التنبؤ بمساره فيما إذا كان بالقرب من الشمس أو أنه يسير نحو اللانهاية غير كاف، فالخوارزمية تفهم أنك بحاجة أيضاً لمعرفة السرعة.

من مساوئ هذه الخوارزمية محدودية أنها غير دقيقة، وعلى الرغم من ذلك فهي تُعدّ مفيدة طالما أن التقريبَ قريبٌ بما فيه الكفاية لجعل التنبؤات جيدة.

يقول مطوّرو هذه الخوارزمية أنه يُمكن وضعُ توصيفٍ كامل دقيق لأي نظام ديناميكي بشرط توافر كمية كبيرة من البيانات، لكن ما يجعل الخوارزميةَ هذه عملية أن بعض القياسات من النظام كافية لإعطاء توصيف تقريبي له!

طبياً وعلى مستوى الخلية، استعرض الباحثون تجارب أخرى. فعلى سبيل المثال، يُمكن لهذه الخوارزمية الاستدلالَ على ديناميكية مستقبلاتِ المناعة في خلايا الدم البيضاء. يقود هذا النوع من النماذج إلى الفهم الأفضل للدورة الزمنية للاستجابة لعدوى أو دواء.

وفي تجربة أخرى قام الباحثون بتزويد الخوارزمية بتراكيزِ ثلاثِ مواد كيميائية مشاركة في التحلل في الخميرة. استطاعت الخوارزمية توليدَ نموذجٍ يُعطي تنبؤاتٍ دقيقة لكامل نظام هذه العملية الاستقلابية الأساسية اللازمة لاستهلاك الغلوكوز. يقول الباحثون أنهم تمكنوا من الحصول على هذه النتيجة باستخدام حوالي المئة عيّنة، في حين أن الحصول على هكذا نتيجة باستخدام طرقٍ وخوارزمياتِ استدلال أخرى يتطلب عشراتِ الآلاف من العيّنات.

يُجري الباحثون حالياً تجاربَ فيما إذا كانت الخوارزميةُ قادرةً على نمذجة أنظمة بيولوجية أكثر تعقيداً، كديناميكية إفراز الأنسولين في البنكرياس وعلاقته بظهور مرض السكري.

إن حدساً لِفكرٍ مبدع كفكر إسحاق نيوتن هو النوعية التي تميز الذكاء البشري عن ذكاء الآلة، فلا يُمكن أن تُعطى الآلة حدساً على الأقل حالياً، لكنْ يأمل الباحثون بذلك مستقبلاً!

المصادر:

هنا

هنا