الرياضيات > الرياضيات

ألكسندر كروتنديك أينشتاين الرياضيات و مؤسس الهندسة الجبرية

إلى أي مدى يمكن للعالم أو الباحث العلمي أن يلتزم بالأخلاق، ولاسيما في ظل الاكتشافات العلمية التي وضعت مصير البشرية على المحك، ليس ابتداءً بالقنابل النووية والهيدروجينية وليس انتهاءً بالاستنساخ، ربما لأبعد حد... هذا ما عبّر عنه عالم الرياضيات ألكسندر كروتنديك، من خلال مسيرة حياته والتي هي أشبه بالرواية منها إلى الواقع.

في 13 من نوفمبر 2014 وفي مشفى في جنوب غرب فرنسا توفي ألكسندر غروتينديك عن عمر ناهز 86، والذي يعدُّ واحدًا من أعظم علماء الرياضيات في القرن العشرين. يحظى غروتنديك باحترام الوسط العلمي الرياضياتي باعتباره أينشتاين الرياضيات، رغم أنه ترك مهنته كـأستاذ للرياضيات في عام 1970 بعد خلافات سياسية، واختفى تماماً عن الأنظار منذ عام 1991.

ولد ألكسندر غروتينديك لأبوين يساريين متطرفين في برلين يوم 28 مارس 1928، هرب والده من النازية ليحارب في صفوف الشيوعيين الإسبان إبان الحرب الأهلية، تاركاً ولده يربى لدى أسرة ألمانية، لجأ غروتينديك مع أمه إلى فرنسا عام 1939؛ حيث عانى من اضطهاد مضاعف من قبل الفرنسيين كونه ألماني ومن قبل النازيين الذين غزوا فرنسا كونه ذو جذور يهودية، ربما تلك الفترة أثرت على شخصيته وقراراته ومصيره حتى، كما سنرى لاحقًا.

رغم اهتمامه بالفيزياء إلا أنه فضّل الرياضيات البحتة، وذلك بسبب صلة الفيزياء بالعديد من الكوارث البشرية، كما حدث في هوريشما مثلاً في نهاية الحرب العالمية الثانية. ففي عام 1948 اتجه نحو مدينة نانسي حيث حصل على شهادة الدكتوراة في الرياضيات على يد جين ديودونه في مدينة نانسي وقضى عدة سنوات في التدريس في البرازيل والولايات المتحدة ثم عاد إلى فرنسا عام 1955 والتحق بمركز الدراسات المتقدمة، حيث بلغ ذروة نشاطه العلمي.

في عام 1960 وانطلاقاً من مبدأ أخلاقي، أعلن أنه سيتوقف عن المشاركة بأي تظاهرة علمية ممولة من قبل جهة حكومية ذات صلة بالأسلحة أو الحرب كالناتو وناسا ووزارة الدفاع الفرنسية؛ مما دفع بعض منظمي المؤتمرات- نظراً لمكانته العلمية- بتغير مموليهم أحياناً رغبةً منهم في ضمان مشاركته.

في عام 1970 اكتشف مصادفةً أن جزءًا من تمويل معهد الدراسات المتقدمة الذي يعمل به يأتي وبشكل جزئي وغير مباشر من وزارة الدفاع الفرنسيّة، مما حذاه ليصبَّ جام غضبه على زملائه الذين قبلوا بهكذا وضع رغم اعتناق بعضهم لأفكار يسارية مناهضة للحروب، رافضاً التبريرات التي قدمها زملاؤه من قبيل أن ذلك التمويل لم يفرض عليهم أي قيود على حرية التفكير والتعبير، ووجد نفسه مضطرّاً لتقديم الاستقالة، و فشل في أن يجد أي وظيفة أخرى في مؤسسة من مستوى معهد الدراسات المتقدمة الذي كان يعمل به، ولا سيما مع الشروط التي وضعها في نبذ أي علاقة مع المؤسسات العسكرية.

بعد عام 1970 اتجه نحو الدعوة لمناهضة الحرب والإمبريالية مؤسساً بعض الحركات التي حال سلوكه الغريب دون أن تجد لنفسها قاعدة شعبية. بحلول عام 1980 أصبح غير مستقر من الناحية العقلية، ولجأ إلى إحدى القرى في جبال البرينيه في الجنوب الفرنسي، وكان آخر ظهور له عام 1991 حيث أحرق آلاف الأوراق من مخطوطاتة في منزل صديقته ثم اختفى، وبدأت الشائعات تنتشر حوله، البعض قال أنه أصبح بوذياً بتعبد في أحد الجبال في البرينيه، وآخرون قالوا أنه أصبح مناصراً متطرفاً للبيئة يرعى الماشية في الجنوب الفرنسي، واحدة فقط من علماء الرياضيات استطاعت التواصل معه في تلك الفترة، حيث وافق على الزواج منها لاحقاً، ليفاجئها لاحقاً بقوله أنّه مستعدٌ أن يطلعها على نظريته الفيزيائية الجديدة في حال إجابتها على السؤال :’’ما هو المتر،،؟".

رغم الغموض والغرابة في سيرة حياته، إلا أن إنجازاته الرياضية ذات أهمية كبيرة، ووصفت أعماله بأنها وحدت بين الطبولوجيا والهندسة والتحليل العقدي ونظرية الأعداد، فهي تشمل تأسيس فرع الهندسة الجبرية. قاد غروتينديك ثورة في الرياضيات البحتة بين عامي 1955 و1970 في معهد الدراسات المتقدمة في فرنسا، والذي عاش عصره الذهبي في تلك الفترة. بلغ ذروة مجده بحصوله على جائزة فيلدز عام 1966 وهي بمثابة جائزة نوبل في الرياضيات. وفي الثمانينات كتب آلاف الصفحات في الرياضيات والفلسفة شملت طيفاً واسعاً من المواضيع الشخصية والعلمية والفلسفية، احتوت تلك الصفحات على تأسيس لفرع جديد هو الهندسة الأنابيلية، وكذلك وصف في تلك الفترة أفكارًا جديدة اعتبرت ثورية في مجال الهندسة الجبرية.

من أعماله البارزة تعميم نظرية ريمان-روش الكلاسيكية ونظرية كيه الطوبولوجية. وكان لتأسيسه لنظريات كُهومولوجية جديدة وكذلك لنظرية توبوس ونظرية التمثيل أثراً كبيراً على نظرية الأعداد الجبرية والهندسة الجبرية ونظرية المعلومات والمنطق.

من النقاط البارزة في مسيرة حياته رفضه لجائزة كرافورد التي تمنحها الأكاديمية السويدية للعلوم عام 1988، وبرر ذلك بأنه لم يعد يثق بالمؤسسات العلمية والسياسية التي ينخرها الفساد والممارسات اللاأخلاقية على حد وصفه.

طويت صفحة ألكسندر غروتينديك في 13 من شهر نوفمبر 2014، إلا أنه ترك وراءه- إضافة لإسهاماته في الرياضيات البحتة- بحراً من التساؤلات حول الطبيعة البشرية ومدى أخلاقية العلم والبحث العلمي وقابلية بعض العلماء أن يعملوا في مجالات قد يكون من شأنها قتل آلاف البشر، وقابلية آخرين أن يضحّوا بكل شيء في سبيل مبادئهم الأخلاقية النبيلة.

المصدر: هنا