الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة

سيرة ذاتية للجنون ...هكذا أصبح للفن فلسفة (الجزء الأول)

يكاد العالم يخلو من مجال معرفي لا يرتبط بالفلسفة، ولكن من الأمور التي لا يعرفها الكثيرون أن للفن كذلك فلسفته التي نشأت عبر التاريخ من تراكم أفكارٍ ونظريّات ونقاشات حادّة في هذا المجال، بدءًا من أفلاطون وأرسطو، وصولاً إلى يومنا هذا. سنسلط الضوء على بواكير نشوء فلسفة الفن ذاكرين أهم المحطات الفاصلة والتي ساعدت في تشكُلِها في مقالنا هذا.

إنّ ولادة فلسفة الفن كعلمٍ متكامل، تعود في الواقع إلى الفترة بين القرنين السادس عشر والسابع عشر، فقد كانت هذه الفترة تمثّل مرحلة النمو والتطوّر لبذور هذا العلم التي كانت متناثرة ومفككّة وخالية من الإرتباط المذهبي مع مفاهيم فلسفيّة أخرى. والمسألة التي حاولت العصور الحديثة الإجابة عنها ،كانت تتعلق بالدور الذي يحتله الفن والشعر والخيال في حياة الفكر، وبالتالي العلاقة بين الخيال وبين المعرفة المنطقية، والحياة العملية والأخلاقيّة، وقاد هذا إلى وضع ما يشبه "قائمة للفكر الإنساني"، وكانت مسألة فلسفة الفن جزءاً من هذه القائمة، ومنصهرة مع باقي أجزائها في ذات الوقت، فكان من المستحيل الإحاطة بميزة الخيال الإبداعي عموماً دون الإحاطة بالفكر بأكمله، كما كان من المستحيل تشييد فلسفة للفكر بدون إقامة فلسفة للفن.

هذا التطوّر والذي قد يبدو بطيئًا جدًا، أفضى في نهاية الأمر إلى وجود فلسفة الفن، حيث عمل البلاغيّون والنّقاد في القرن السادس عشر على ما وروثوه في القرون التي سبقتهم، وخصوصاً ما يتعلّق بإيجاد وظيفة خاصّة بالإنتاج الفنّي قادرة على إبداع الجمال وتقريبه من الخيال، وهذه الوظيفة هي ما تعرف الآن باسم "الموهبة"، وفي نفس الوقت إيجاد وظيفة خاصة بالحكم على الفن وتقريبها من العاطفة تارة، ومن الحدس تارة أخرى، وهي ما تسمّى الآن "التذوّق".

وللمفارقة، فحتّى ديكارت وتلامذته الذين ردّوا المعرفة الإنسانية إلى البداهة الرياضيّة، وهمّشوا الخيال تمجيدًا للعقل، فقد وصلوا أيضاً إلى اكتشاف دور الفن والشّعر في حياة الفكر، وهذا ساهم في الوصول إلى تعريفات للجمال بمختلف صوره. وفي أواخر القرن السابع عشر ،تجمّعت كل هذه الآراء في بؤرة واحدة عندما وصلت إلى "إيمانويل كانط" الذي قدم كتاب "نقد الحكم"، واضعاً فيه أبحاث وطروحات حول نسبيّة الذّوق، والجمال المحض، والصّورة الهزليّة وحدود الفن. وكان لكانط رأيٌ يقول بعدم أهميّة محتوى العمل الفنّي مقارنة بترتيب هذا العمل وأدواته والنموذج المتّبع فيه وقدرته على فرض نفسه.

وقد تأثرت فسفة الفن بالحركة السّياسيّة التي شهدتها أوروبّا أثناء وبعد الحرب العالميّة الأولى، ففي العام 1916 لجأت مجموعة من الفنانين الألمان والسويسريين والإيطاليين في إحدى شوارع زيورخ في سويسرا - والذي جمعهم قاسم مشترك واحد وهو انهيار فهم الحياة عندهم وسط قارة تغرق بالموت- إلى تعزيز فلسفتهم العدميّة "الجنون مع الحكمة جنبًا إلى جنب"، ليُنشِئوا على أساسها "الحركة الداديّة" التي تبنّت منطق "لن يصدر عنا سوى الرفض، ولهذا نعيش"، فرفضوا بحزم الفن واللغة والذوق كما يتبنّاه النظام الرأسمالي. وفي باريس تحديدًا ،ألّف الموسيقار الشيوعي "إريك ساشي" مقطوعة موسيقيّة خاصة بعرض للباليه، كان "بيكاسو" قد تولّى تصميم الديكور الخاص به، أغضب هذا العرض البرجوازيين لما فيه من غرابة، أو بالأحرى وجدوا فيه "قلّة في الذّوق" نتيجة لاستخدام ساشي لأصوات آلات كاتبة وطلقات رصاصيّة وضربات سريعه من الجاز، أمام مسرح مُصممّ بطريقة لا توحي إلى أي معنى. هذا الحدث بمجمله أثار إعجاب "لويس أراغون" أحد روّاد الحركة الداديّة ورأى فيه تجاوزًا للواقع وانقلاباً على المُثل البرجوازيّة، فسمّى هذا النّوع من الفن "السرياليّة" فحلّت مكان "الداديّة"، وسجلت نفسها في تاريخ فلسفة الفن بجدارة. وكان أخصّائي الأعصاب "أندريه بروتون" أفضل من اشتغل عليها، حيث ربط أيضاً هذا الفن بالجانب النفسي للمرضى، وأدخل للسرياليّة نظريّات فرويد في التحليل النفسي للأنا العليا والسّفلى، إلى جانب الأفكار الماركسية القائلة بتذويب الطبقات، بحيث اقترح أن يتحرر الفنّان ليصبح غير مُقيّدٍ في تعبيره دون سطوة الأنا العليا، فكما تذيب الشيوعية الطبقات الإجتماعية، على الأنا أن تنصهر وتتخلّص من قيودها.

وابتداءاً من خمسينيات القرن الماضي، أخذت أفكار "سارتر وهيدجر" الوجوديّة، توجّه فلسفة الفن إلى اتجاه جديد معاصر، من خلال اهتمام "الوجوديّة" بالخيال، على أنه قادر على تقديم عالم بديل للعالم الواقعي تتجلى فيه الحرية بأكمل درجاتها، لذلك ترى "الوجوديّة" في الخيال قدرة على نفي الواقع وهذا هو الوعي عند الإنسان، فوصف سارتر الوعي الخيالي بالتلقائيّة، بمعنى قدرته على إنتاج موضوعات جديدة، بحيث يكون الخيال هو الوعي الخلّاق الإيجابي، وبهذا يتميّز عن الإدراك الذي يتلقّى الموضوعات ولا يُنشئها. وميّز أيضاً بين الصّور الخياليّة التي تأتي من وسائط وأشياء ماديّة كالصّورة أو النّحت، وبين تلك التي تأتي من مشاعر النّفس وأحاسيسها، فالموضوع المُتخيّل يستخدم باستمرار مصادر ماديّة محسوسة تنبّه خيالنا وتثيره للعمل، ولهذه الفكرة دور كبير في تفسير العمل الفنّي، وساهمت بشكل كبير في تطوّر فلسفة الفن في العصر الحديث.

ساهمت آراء أرسطو وأفلاطون في توفير أساسٍ صَلب بُني عليه ما بُني من قِبَل فلاسفة وفناني العصور اللاحقة، ولكن أيضاُ عربياً كان هناك من خطّّوا في هذا الصعيد ما كان مهماً ومؤثراً في تطور فلسفة الفن، وهذا ما سنتطرّق له في مقالنا القادم.

المراجع :

سقوط الجدار السابع، حسين البرغوثي ،بيت الشعر الفلسطيني 2006.

المجمل في فلسفة الفن، بنديتو كروتشه، ترجمة سامي الدروبي، المركز الثقافي العربي 2009.

فلسفة الجمال أعلامها ومذاهبها،أميرة حلمي مطر، دار انباء ،القاهرة 1996.

وظيفة الفن ،عزت السيد أحمد، الناشر :حدوس واشراقات ،عمان 2013