الاقتصاد والعلوم الإدارية > اقتصاد

تاريخ كفاءة السوق

عندما نقول عن سوق مالي بأنه كفء هذا يعني بأن أسعار الأوراق المالية (الأسهم والسندات) فيه تعكس جميع المعلومات المتعلقة بهذه الأوراق ولا يمكن لأحد التفوق على السوق وتحقيق عوائد غير عادية تتجاوز معدل المخاطر المرافقة للاستثمار. ولقد نشأت فرضية كفاءة السوق نتيجة جهود بحث كبيرة قام بها الكثير من الباحثين والمختصين في الأسواق المالية.

بالعودة إلى القرن السادس عشر في العام 1564، يشير عالم الرياضيات البارز "Girolamo Cardano" في كتابه "كتاب لعبة الحظ" إلى أن المبدأ الأساسي في أي لعبة قمار هو تساوي الظروف والشروط عند كل خصم حتى بأصغر التفاصيل. بينما لاحظ سمسار الأسهم الفرنسي "Jules Regnault" في العام 1863 أنه كلما تم الاحتفاظ بالورقة المالية لمدة أطول فإن هنالك احتمال لحدوث ربح أكبر أو خسارة أكبر وأن الانحراف في السعر يتناسب طرداً مع الجذر التربيعي للزمن. وأيضاً قام كل من البريطانيان، الفيزيائي "Rayleigh" عام 1880 والفيلسوف "John Venn" عام 1888، بالتعرض لمفهوم السير العشوائي بشكل عام، حيث أن أسعار الأسهم لا تتبع نمطاً معين لتسلكه، بل تكون حركتها عشوائية يصعب التنبؤ بها.

وفي العام 1889 تم التطرق لمفهوم كفاءة السوق بشكلٍ صريح في كتاب الاقتصادي "Gibson" "أسواق الأسهم في لندن وباريس ونيويورك" حيث أشار إلى أن الأسهم عندما تطرح للعموم فإن قيمتها تعكس أفضل المعلومات المتعلقة بها. شكلت هذه الأفكار حجر الأساس لفرضية كفاءة السوق، حيث مع بداية القرن العشرين قام عالم الرياضيات الفرنسي "Louis Bachelier" بإجراء أول تحليل دقيق لعوائد الأسهم في عام 1900، وثق من خلال عمله وجود استقلالية إحصائية في سير عوائد الأسهم، بمعنى أن أسعار الأسهم كانت تسير وفق سلسلة عشوائية. هذا ما شكل فيما بعد أساساً لفرضية السير العشوائي. وفي عام 1938 كان "john Burr Williams" في عمله عن القيمة الحقيقية واحداً من الأوائل الذين حاولوا التعرف على ما تحمله أسعار الأسهم من معلومات محتملة، وجادل بأن أسعار الأسهم تعتمد على أسس اقتصادية. بينما كانت الفكرة المسيطرة قبل ذلك والتي اقترحها الاقتصادي الشهير جون كينز هي أن أسعار الأسهم مبينة على أساس المضاربة أكثر منها على أسس اقتصادية.

في عام 1953 طرح الإحصائي البريطاني "Maurice Kendall" بحثه المثير للجدل بعنوان تحليل السلاسل الزمنية الاقتصادية الذي أجراه على العوائد الأسبوعية لمؤشر السوق البريطاني، وتوقع فيه أن يجد سلوكاً منتظماً لحركة الأسهم، لكنه لاحظ أن أسعار الأسهم تتبع سلوكاً عشوائياً ولا يمكن التنبؤ بها مستقبلاً. كذلك الأمر بالنسبة لـلبحث الذي أجراه "Harry Roberts" عام 1959 والذي وجد نتائج مشابهة في مؤشر Dow Jones الصناعي.

في عام 1965 قدم "Eugene Fama" نتائجاً شاملةً ليس فقط من حيث الاستقلالية الإحصائية بل أيضاً من حيث جدوى نتائج التحليل الفني تدعم فرضية السير العشوائي لأسعار الأسهم. حيث قام بدراسة معامل الارتباط لسلسلة أسعار أسهم مؤشر داو جونز الصناعي المكون من 30 سهم، ووجد أن التغيرات اليومية لأسعار هذه الأسهم لها ارتباط ضئيل جداً ويقترب من الصفر، مما دفعه إلى استنتاج خاصية السير العشوائي لأسعار الأوراق المالية. تقوم هذه الخاصية على فكرة أنه إذا كان هنالك تدفق في المعلومات بدون عوائق إلى الأسواق المالية والمشاركين فيها، فإن أسعار يوم الغد ستعكس فقط أخبار الغد، وستكون مستقلة عن أسعار اليوم. هذا يعني أنه لا يمكن التنبؤ بأي تغير في أسعار الأوراق المالية بناء على معلومات اليوم. وحتى ذلك الوقت لم يكن قد تبلور بعد المعنى الحقيقي لأسعار الأسهم وارتباطها بأسس اقتصادية.

ليأتي بعد ذلك عمل كل من "Paul Samuelson" عام 1965 و "Benoit Mandelbort" عام 1966 ليؤكدوا على أن الاستثمار في سوق الأوراق المالية هو لعبة عادلة (Fair game)، مما يعني أنه لا يمكن للمستثمر التفوق على أداء السوق إن لم يكن بحوزته معلومات يستفيد منها في ذلك. كما أن أسعار الأسهم تعكس توقعات المستثمرين في ضوء جميع المعلومات المتاحة، فأسعار الغد تتغير فقط في حال تغيرت توقعات المستثمرين بشأن الغد. وهذه التغيرات من الممكن أن تكون إيجابية أو سلبية طالما لا يوجد تحيز في توقعات المستثمرين، وشكل ذلك الأساس لفرضية العقلانية في الأسواق المالية.

بعد ذلك قام Fama عام 1970 بنشر بحثه الشهير "كفاءة سوق رأس المال: استعراض للنظرية و اختبار تجريبي" والذي شكل الإطار النظري لفرضية كفاءة السوق. تطور فيما بعد مفهوم كفاءة السوق تدريجياً، ليعبر السوق الكفء عن السوق الذي يتصف بسرعة استجابة أسعار الأوراق المالية المتداولة فيه لأية معلومات جديدة، كما تعني كفاءة السوق أن سعر الورقة المالية في تلك السوق وفي تاريخ معين يعكس كافة المعلومات المتاحة حتى هذا التاريخ، وأن أي معلومة جديدة عن هذه الورقة ستنعكس وبصورة فورية على السعر فور إتاحتها للمتعاملين في السوق.

في ظل كفاءة السوق نفترض بأن عدداً كبيراً من المحللين يقومون بتقدير القيمة الحقيقة للشركات، ويقوم المحللون بمحاولة إيجاد الأسهم التي تنحرف قيمتها الحالية عن قيمتها الحقيقية. فإذا وجد هؤلاء المحللون هذا الخلل في التسعير فإنهم سيقومون ببيع أو شراء هذه الأسهم، دافعين بقيمتها باتجاه القيمة الحقيقية. لذا فإن وجود المنافسة في السوق المالي يدفع بأسعار الأوراق المالية نحو قيمها الحقيقية. وبالتالي فإن أسعار الأوراق المالية تتغير في كل يوم وكل دقيقة تبعاً للمعلومات الواردة إلى السوق ولا يمكن لأحد أن يتفوق عليه. هذا وتقسم فرضية كفاءة السوق إلى ثلاث صيغ رئيسة تعرف الأولى بالصيغة الضعيفة لكفاءة السوق و تفترض هذه الصيغة بأن الأسعار في السوق تعكس جميع المعلومات التاريخية فقط، وأية أرقام وأشكال بيانية لحركة السهم تمت في الماضي بما في ذلك البيانات التاريخية، لا يمكن الاستفادة منها على الإطلاق في محاولة تحقيق أرباح غير عادية. الصيغة الثانية هي الصيغة المتوسطة لكفاءة السوق، وتبعاً لهذه الصيغة فإن أسعار الأوراق المالية تعكس جميع المعلومات العامة المتاحة ذات الصلة، بالإضافة للمعلومات التاريخية. قد تكون هذه المعلومات قوائم مالية أو محاسبية أو معلومات تتعلق بالسوق والاقتصاد بشكل عام. الصيغة القوية هي الصيغة الثالثة لكفاءة السوق. تعني هذه الصيغة أن الأسعار الحالية تعكس بشكل فوري كل المعلومات العامة والخاصة المتاحة. أي أن السوق الذي يكون كفءً وفقاً للصيغة القوية فإن كل المعلومات التاريخية بالإضافة للمعلومات الحالية كما هي المعلومات الخاصة والتي لا يعرفها سوى قلة قليلة من الأشخاص كأعضاء مجلس الإدارة والموجودين داخل الشركة (Insiders) تكون منعكسة بشكل كامل في أسعار الأوراق المالية فيها. وبالتالي فإنه ليس بإمكان أي أحد إتباع أي استراتيجية لتحقيق أرباح غير عادية في السوق.

بذلك ارتبطت فرضية كفاءة السوق باسم الاقتصادي Fama والذي تابع الدفاع عن فرضيته حتى وقتنا هذا، وذلك على الرغم من ظهور الكثير من المنتقدين الذين رأوا بعض نقاط الضعف في الإطار النظري لهذه الفرضية، وخاصة في ظل ظهور عدد من الشذوذات في الأسواق المالية والتي مكنت الكثير من المستثمرين من تحقيق أرباح غير عادية لا يمكن تفسيرها عن طريق فرضية الكفاءة ولا حتى عن طريق نماذج تسعير الأصول الرأسمالية التقليدية.

المصادر:

DIMSON، E.; MUSSAVIAN، M. A Brief History of Market Efficiency. European Financial Management. Vol. 4، No. 1، 1998.

SEWELL، M. History of the Efficient Market Hypothesis. UCL Research، 2011.