الفلسفة وعلم الاجتماع > مصطلحات

ظاهرة الاغتراب ...الهوة بين الفرد و مجتمعه (الجزء الثاني)

كما قلنا سابقاً، تصب ظاهرة الاغتراب في صلب اهتمام الكثير من الاختصاصات والأفرع العلميّة، وهذا ما دفع بالعديد من الأدباء والروائيين إلى تناولها، ليس بقالبها العلميّ أو الفلسفي فحسب بل حاولوا تجسيدها ضمن شخصيّة بطوليّة تكون محور أعمالهم الروائية. فتارةً جسّدوا الانسان الذي يعيش في اغتراب عن عادات وتقاليد وثقافة مجتمعه، وتارة أخرى تناولوا المغترب عن النظام الاقتصادي للمجتمع كالكتّاب الماركسيين. فماهي أنواع الاغتراب؟ وكيف يمكن لها أن تتجسّد؟ وما الدّافع وراء تشكّلها؟ ما الفوارق التي تكمن بين هذه الأنواع؟ هذا ما سنتطرق إليه في الجزء الثاني من سلسلتنا عن ظاهرة الاغتراب.

أنواع الاغتراب عدة وهي:

الاغتراب الثّقافي: قبل الشروع بوصف الاغتراب الثقافي، لابدّ لنا أولاً من الوقوف على حقيقة ما تعنيه كلمة "ثقافة". فالعديد من المفكرين يرون بأنّ الثقافة تمثل تاريخ وحاضر ومستقبل أمة من الأمم بجانبه المعنوي أو الروحاني وليس المادي (مثل العمران والتكنولوجيا). فثقافة أمة تعني هويتها العلمية والتاريخية والأدبية ومنظومتها الأخلاقية بما تحويه من مبادئ وقواعد ومعايير. وبناءاً على هذا نلحظ اختلاف الثقافات من مجتمع لآخر وذلك حسب ما يتوافق مع منظومتها الفكرية والآيديولوجية.

بالعودة إلى الاغتراب الثّقافي، سنتناول انتشار هذه الظاهرة في المجتمعات العربية كنتيجة لما شاهده المفكرون من حالة صراع بين الماضي والحاضر في الثقافة العربية بسبب انشطارات بين قيم الثقافة التقليدية وقيم الثقافة المعاصرة. تعود هذه الأزمة إلى عدم قدرة الثقافة العربية على احتواء ما تأتي به الثورات العلمية والتكنولوجية، مما يؤثر سلباً على بنية الشخصية العربية ويؤدي إلى اغترابها. وقد ميّز المفكرون بين نوعين من الاغتراب الثقافي فيما يخص الماضي والحاضر وهما: فئة تتعلق بالثقافة العربية الكلاسيكية ولا ترى سواها. تعتبر كل ما قدمه الأولون هو الصحيح فقط، دون إعطاء أي اعتبار لمعطيات الواقع الحديث. وفئة انتقائية تعايش معطيات الواقع الغربي دون دراية أو تمحيص. إذ في كلا الحالتين لابد من الشعور بالاغتراب الثقافي، فالأولى غارقة في الماضي والثانية غارقة في التبعية. حتى نصل إلى الحالة التي عبر عنها "زكي نجيب محمود": "يصبح الفرد إما خالياً من من الأسس الأصيلة لثقافته العربية مقلداً عناصر متنافرة من ثقافات مختلفة، أو يملأ نفسه بثقافة مجتمعه، بحيث تسد دونه أبواب العصر، وفي كلا الحالتين فهي صور تعبر عن أفراد غير قادرين على الاندماج والتفاعل مع مجتعهم".

فكيف يمكننا المحافظة على هويتنا دون الدخول في دوامة الانغلاق عن الذات. وكيف يمكن اكتساب ثقافات العصر دون الوقوع في خطأ التبعية أو التقليد؟ لنذكر أخيراً بقول " فؤاد زكريا" بأنّ أسباب التخلف الفكري في العالم العربي سببها العلاقة بين الماضي والحاضر إذ تقوم هذه العلاقة على وضع التاريخ والماضي في مقدمة الحاضر وكأنه منافس له، لا بوصفه مندمجاً معه، وهذا يساهم في عدم القدرة على القيام بانطلاقة فكرية جديدة، وحدوث حالة من التمزق والاغتراب الثقافي والفكري في عالمنا العربي.

-الاغتراب النفسي: يشير مفهوم الاغتراب النفسي إلى النّمو المشوّه للشخصيّة الإنسانيّة، حيث تفقد فيه الشخصية مقومات الإحساس بالوجود والديمومة، ويتناول مفهوم الاغتراب في الشخصية: الشعور بعدم الثقة والقلق، غياب الإحساس بالتكامل الداخلي للشخصية، ضعف أحاسيس الشعور بالهوية والانتماء والأمن. يشير "ايريك فروم" إلى أن المعنى القديم للاغتراب جاء موازياً للمفهوم السيكوباتي، أي الشخص المغترب عن عقله. فيما رأى بعض المفكرين أنّ حالة الاغتراب عن الذات لا تعدو أن تكون سوى صور ثنائية ازدواجيّة مرَضّية، أو ما يطلق عليه "شيزوفرينيا". أمّا "فرويد" فقد تركّز اهتمامه على مفهوم اللاوعي، كما تناول غربة الذات والشعور واللاشعور، وغيرها من المفاهيم التي ترجمت وجهة نظره في الاغتراب بأنه "اضطراب مرضي". كما وجد أن الاغتراب سمة متأصلة في وجود الذات في حياة الإنسان، إذ لا سبيل مطلقاً لتجاوز الاغتراب. وتوصل فرويد إلى أن اغتراب الشعور والوعي يحدث عند ظهور حاجات تجعل تذكر بعض التجارب الشخصية المؤلمة أمراً صعباً.

-الاغتراب الإقتصاديّ: إن حياة الإنسان ضمن بيئته الإجتماعيّة، محاطاً بمعارفه وأصدقائه، تعكس حالة نفسية وإجتماعيّة معيّنة، فتؤثّر به تأثيراً إيجابيّاً أو سلبيّاً، وهذا من شأنه أن ينطبق على وجوده ضمن المؤسسات والمنظّمات المختلفة التي يعمل ضمنها. أكّدت تجارب العصر الحديث ما للتكنولوجيا من تأثير أضافيّ على هذه العلاقة. فيما يشدد المفكرون على أنّ ضعف العلاقات الإجتماعيّة بين العاملين فيما بينهم، وبينهم وبين الإدارة، تفضي إلى ضعف التماسك ببيئة العمل من جهة، وإلى إحساس الفرد بتحوّله من كائن حي له مشاعر وعواطف وكينونة وهويّة إلى "شيء" يتمّ تبادله مثله مثل أيّ سلعة أخرى من جهة أخرى. كل هذا كفيل بولادة الشعور بالاغتراب الإقتصادي. وفي ظلّ العصر التكنولوجي ظهر في المجتمع الإقتصادي ما يمكن تسميته بـ" تكنولوجيا الإنتاج بالجملة"، والتي تعتمد على وضع الآلات والمعدات وفق ترتيب معيّن يسمح بتتابع العمل وتناسقه حتى يتم اكتماله. عند دراسة المجتمعات التي انتشرت فيها هذه الآلية لوحظ:

. أن هذه المجتمعات تؤدّي إلى إلغاء الحاجة للمهارات الفردية الحرفية للعمل، كما أنها لا تقدم سوى فرص ضئيلة من الابتكار والتجديد.

. تراجع في مستوى العلاقات الإجتماعيّة في هذه المجتمعات، ليسود فيها الخمول في إطار التفاعل بين العامل والإدارة ولينتشر الشعور بعدم الرضا الوظيفي.

ويعد "ماركس" أفضل من صاغ مفهوم الاغتراب الاقتصادي. قسم "ماركس" هذا المفهوم إلى نوعين: اغتراب عن ناتج العمل، واغتراب عن العمل نفسه. فيما بعد أتى " إيريك فروم"، الذي يساند "ماركس" في عدائه للرأسمالية، ليقول: "إن المجتمعات الرأسمالية تجعل الإنسان يكفّ عن كونه غاية بحدّ ذاته، ليصبح وسيلة للمصالح الإقتصادية. عندما يصبح الإنسان وسيلة وليس غاية تصبح الأشياء الجامدة فوق الإنسان." يشير مفهوم العمل المغترب عند "فروم" إلى معنيين: أحدهما، نقده للعمل الروتيني الذي ينشأ عن سيطرة الروح البيروقراطيّة على النشاط الإنتاجي، والثاني يرتبط بتحول العمل إلى نوع من النشاط الاضطراري للهروب من الوحدة والقلق.

-الاغتراب السّياسي: يعد هذا النوع من الاغتراب واحد من أكثر المظاهر انتشاراً في المجتمع المعاصر. وتبدو مظاهره في عدة أمور، مثل عدم قدرة المواطن في المشاركة بالفعل السياسي، كالمشاركة في اتخاذ القرارات المهمة أو المشاركة الايجابية في الانتخابات السياسية، كما يدل على افتقاد السلوك السياسي لأي معايير أو قواعد بشكل عام. وقد أوضح "محمد خضر عبد المختار" أثناء دراسته لظاهرة الاغتراب السياسي أنّ أهم مكونات هذه الظاهرة هي: سلوك التبلد، عدم التصويت في الانتخابات، عدم الوعي بالسلطة، العجز السياسي، فقد المعنى السياسي، العزلة السياسية، الأنوميا، انعدام المعيار السياسي، اللامبالاة السياسية.

أما عن أهم النظريات المفسرة للاغتراب السياسي فهي:

-نظرية التنظيم المعقد أو المركب: ترى أن التمرد يحدث عندما يصبح الناس عاجزين أو غير راغبين في المشاركة السياسية وذلك لضعف العلاقات الاجتماعية والعجز عن الانتماء.

-نظرية المساواة الاجتماعية: التي ترى أن التمرد يحصل عندما تشعر طبقة معينة من الناس بعدم المساواة مع غيرها، أي وجود تفاوت طبقي شاسع.

-نظرية الفشل الشخصي: تُرجع السبب إلى الظروف الاجتماعية المقيدة لحرية الفرد، وعدم وجود آلية لتحقيق أهدافه.

-نظرية العزلة الإجتماعية: تجد أن التمرد السياسي سببه شعور بالانفصال عن النظام السياسي وعجز هذا الأخير عن تمثيل الشخص وتحقيق رغباته وطموحاته.

ويسوق المفكرون مثالاً لتوضيح هذه الحالة إذ يقولون بأن عملية الانتخابات تلحظ إحجاماً كبيراً من قبل المواطنين على المشاركة فيها وذلك لتوقعهم المسبق بأنّ مشاركتهم ليس لها أهمية.

ساد القول بأنّ القرن السابع عشر هو عصر الرياضيات، والقرن الثامن عشر هو عصر العلوم الفلسفية، والقرن التاسع عشر عصر علم الاحياء، فيما يعتبر القرن العشرين عصر الخوف، أما القرن الواحد والعشرون فيحمل الكثير من التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والقيمية، ويؤدي بالتالي إلى حدوث طمس للملامح الانسانية واضطراب منظومات القيم، مما يجعل من هذا العصر عصر الاضطرابات النفسية والفكرية والاجتماعية وغيرها.

ملاحظة: الصورة هي لوحة للفنانة الأسترالية زوفيا كيجاك Zofia-Kijak، والتي رسمتها بالأسلوب الانطباعي وهي من أحد لوحات الفن الحديث، وعنونت اللوحة " الاغتراب".

المصادر:

دراسات في سيكولوجيا الاغتراب- د.عبد اللطيف محمد خليفة- دار غريب- 2003