الفيزياء والفلك > علم الفلك

مفارقة ضياع المعلومات في الثقب الاسود

إن كنت من مُتابعي تطورات الجاذبية الكموميَّة أو نظرية الأوتار؛ فستعلم أنَّه طرأت تغيرات جديدة على هذه النظرية في السنتَين الماضيتَين، والتي جعلت من نظرية "الجدار الناري" محطَّ أنظار العالم وأثارت جدلًا كبيرًا بين الفيزيائيين.

وتنصُّ هذه النظريةُ باختصار على أنَّ سقوطَ جسمٍ ما في ثقبٍ أسودٍ سيؤدي إلى احتراقه بمجرد عبوره أفقَ حدث الثقب بسيل من جسيمات ندعوها إشعاع هوكينغ، ويُسمَّى هذا الإشعاع (الجدار الناري)؛ وهو سيل من الجسيمات -وتُسمّى أفقَ الحدث- التي تَصدر عن المنطقة المحيطة بالثقب الأسود نتيجةَ انكماشِ الثقبِ بفعلِ التأثيرات الكموميّة.

في عام 2012؛ وضع مجموعة من الفيزيائيين (أحمد المهيري، ودونالد مارلوف، وجوزيف بولتشنسكي، وجيمس سولي) نظريةَ الجدار الناري التي شكَّلت ادعاءً جريئًا لا يعتمد على النسبية العامة بحدِّ ذاتها، ولا على نظرية الحقل الكموميِّ في انحناء الزمَكان؛ بل على التناغم بينهما ومحاولة دمجهما معًا أملًا بالوصول إلى حلٍّ لمشكلة الحصول على معلومات عن مصير المادة التي تدخلُ الثقبَ الأسود.

قَدّم ستيفن هوكينغ في السبعينيات من القرنِ الماضي ورقةً بحثيةً دمجَ فيها قوانينَ النسبية العامة مع ميكانيك الكمّ لمحاولة التوصُّل إلى فهم الثقوب السوداء فهمًا أعمق؛ إذ تخيَّل هوكينغ أنَّه لدينا ثقبًا أسودَ تكوَّن من مادةٍ عاديةٍ ثم تبخَّر بفعل عمليةٍ افترضَها (سنأتي على ذكرها لاحقًا)، فحسب قوانين ميكانيك الكمِّ يمكننا الاستدلالُ على حالة أيِّ نظامٍ في أيِّ لحظةٍ، وذلك عن طريق الدالة المَوجية (أداة لوصف الجسيمات وحركتها وتأثُّرها مع جسيماتٍ أخرى). ولكن وفقًا لهوكينغ؛ فإنه بعد تلاشي الثقب الأسود لن يكون لدينا دالةٌ مَوجيةٌ واضحةٌ للاستدلال على المعلومات المرتبطة بالجسيمات التي كانت داخل الثقب الأسود؛ بل سنحصل على احتمالاتٍ عديدةٍ جدًّا لدالاتٍ موجيةٍ مختلفة. ويُسمِّي العلماء هذه الحالة (الحالةُ المختلطة). وإضافةً إلى الاحتمالات المتعددة التي يطرحها ميكانيك الكم وعدم حصولنا على إجابات مُؤكدة؛ فإنه لدينا احتمالات متعددة لدالات موجية أيضًا، وبذلك عدمُ القدرةِ على توصيف الجسيمات داخل الثقب الأسود؛ أي إنَّ المعلومات عن مادة الثقب الأسود قد فُقدت إلى الأبد.

شكَّلت دراسةُ هوكينغ ادِّعاءً يُناقض قوانين ميكانيك الكمِّ الأساسية، فوفقًا لميكانيك الكم؛ يستحيلُ ضياعُ المعلومات عن مادة الثقب الأسود. وقد علِمَ الفيزيائيون أنه أدَّت مشكلةٌ ما في دراسة هوكينغ إلى هذا الاستنتاج، لكنهم لم يستطيعوا تحديد المشكلة. فإذا كان ميكانيكُ الكمِّ يفترضُ حفظ المعلومات، فلا بُدَّ لهذه المعلومات من أن تفلت من أفقِ الحدثِ بطريقة ما؛ ولكنَّ ذلك يتطلَّب إرسال هذه المعلومات بسرعةٍ فائقةٍ جدًّا تزيدُ على سرعة الضوء. يقول جو بولتشينسكي: "ربما توجَّب علينا تغيير فهمنا لبنية الزمَكان كما نعرفها حتى ننجحَ في تطبيق ميكانيك الكمِّ تطبيقًا ناجحًا". وقد أصبحت هذه الفكرة مقبولةً في الأوساط الفيزيائية اليوم. ربما كان هوكينغ مُخطئًا عندما طرح فكرة ضياع المعلومات واعترف بخطأه عام 2004، ولكنَّه كانَ محقًّا في أمرٍ مهمٍّ جدًّا؛ وهو: "إنه علينا إحداثُ بعض التغيرات على بعض القوانين الفيزيائية الأساسية".

تكامل الثقب الأسود:

لكي نفهمَ مشكلةَ ضياع المعلومات فهمًا أفضل سنفترضُ أنَّ شخصًا خارجَ الثقبِ الأسودِ يمتلكُ جُسيمينِ مُتشابكين كموميًّا، فيُلقي أحدَ هذين الجُسيمين إلى الثقب الأسود؛ فيخبرنا مبدأ التكافؤ بأنه لن يحصل شيءٌ غيرُ اعتياديّ لهذا الجسيم في منطقة الأفق المحيطة بالثقب الأسود (معلومات أكثر عن مبدأ التكافؤ هنا)، يمرُّ الجسيمُ خلال أفق الحدث بحُريَّة مُتَّجهًا إلى داخل الثقب الأسود؛ ولهذا يصبحُ الجسيمُ خارجَ الثقبِ الأسودِ مرتبطًا كموميًّا مع الجسيمِ في الداخل، ولكنَّ الجسيمَ الخارجي في حالة مختلطة (لا تدلُّ على ماهيَّة المادة داخلَ الثقب الأسود بوضوح) ولا يستطيعُ الجسيمُ داخل الثقب الأسود أن يَفلت من حقل الجاذبية؛ ولهذا عندما يتلاشى الثقبُ الأسودُ لا يتبقَّى لدينا أيّ معلوماتٍ عن المادة بداخله.

تحدثُ هذه العملية في الحقيقةِ على نحو تلقائيٍّ دون الحاجة إلى شخصٍ يُلقي أيّةَ جسيماتٍ داخل الثقب الأسود؛ إذ إنَّ إشعاع هوكينغ ما هو إلا عمليةُ تشكُّل هذه الأزواجِ وانفصالها عن بعضها باستمرار؛ الأمر الذي يؤدي إلى خسارة الثقب الأسود طاقتَه (تبخُّره) حتى يصبح سيلًا من الفوتونات التي تسبحُ في الفضاء المسطَّح؛ إذ تتغيَّرُ بنيةُ الزمَكان الذي يحتلُّه الثقب الأسود بخسارته كتلته (حسب النسبية العامة).

تتبادرُ إلى الأذهانِ أفكارٌ عديدة بناءً على ما سبق، فربما نُسِخَت المعلومات عن الجسيمِ الساقطِ في أفقِ الحدث و أُرسلَت إلى خارج الثقب مع إشعاعٍ لاحق، أو ربما تتسرَّبُ المعلوماتُ في اللحظةِ الأخيرةِ لتبخّرِ الثقب عندما يصبحُ صغيرًا جدًّا فيما يُسمى حجم بلانك.

في عام 1993؛ تعاون ليني سَسْكِنْد مع لوراس ثورلاكيوس وجون أوغلوم في طرح عدة أفكار لمحاولة فهم معضلة ضياع المعلومات في الثقب الأسود بناءً على أفكارٍ وضعها الفيزيائيان جيرارد هوفت وجون بريسكل. وتتطلبُ نظريةُ تكاملِ الثقبِ الأسود أن يتمكن عدَّة مراقبين من رؤية المعلومةِ ذاتها في أماكن مختلفة، فيرى المراقبُ الخارجيُّ المعلومةَ على شكلِ إشعاعِ هوكينغ، أما المراقب الذي يسقطُ داخل الثقب الأسود فسيرى المعلومةَ مثلما هي داخلَ الثقبِ الأسود! يبدو الأمر كالاستنساخِ؛ ولكنّهُ ليس كذلك، هناك معلومةٌ واحدةٌ فقط وفقًا لبَدء المحلية في ميكانيك الكمّ، ولكن يَفشلُ مبدأُ المحلية هنا ولا يَفشل ميكانيك الكمّ.

ومن جهةٍ أخرى؛ يمكن تفسيرُ نظريةِ تكاملِ الثقبِ الأسودِ كما يأتي:

يرى المراقبُ خارجَ الثقبِ الأسودِ أفقَ الحدثِ على أنّهُ غشاءٌ ذو حرارةٍ عاليةٍ يشعُّ المعلوماتَ، في حين لا يرى المراقبُ الذي يسقطُ في الثقبِ الأسودِ أية معلوماتٍ في منطقة الأفق، وهذا يعني أنه لا يمكن لمراقبٍ أن يرى المعلومةَ ذاتَها في مكانين.

في عام 1997؛ افترض خوان مالدسينا وجودَ توافقٍ بين القوانينِ الفيزيائيةِ في فضاءٍ ذي خواصٍّ مُعيَّنة وعدد أبعاد محددة (الفضاءُ داخلَ مكعبٍ مثلًا، وندعوه فضاء دي سيتَر المعاكس)، وبين نظريةِ الحقلِ الكموميّ في فضاءٍ ذي أبعادٍ أقل (أي على السطح الخارجي للمكعب السابق) ودُعيت بمَثنوية مالدسينا، واستنتج عن طريقها بأنَّ كونَنا هو عبارةٌ عن مسقطٍ لكونٍ ثلاثي الأبعاد على سطحه الخارجي ثنائي الأبعاد.

للمزيد عن هذه النظرية اضغط هنا( هنا)

ولكن فشلت مثنويةَ مالدسينا في إيجاد حلٍّ لمعضلةِ الحصول على المعلومات عن الثقب الأسود، فهي تُعاملُ الثقبَ الأسودَ على أنّه منظومةٌ حراريةٌ لا تختلفُ عن أيةِ منظومة أخرى، وبهذا يمكننا تطبيقُ قوانينِ الكمّ العادية بنجاح، ولكنها لا تتوافق مع تناقص طاقته بواسطة إشعاع هوكنغ؛ وبذلك لا بُدَّ من التخلي عن مبدأ المحلية.

المصدر: هنا