الفلسفة وعلم الاجتماع > مصطلحات

ظاهرة الاغتراب ... الهوة بين الفرد ومجتمعه

وأغربُ الغرباء مَن صار غريباً في وطنه، وأبعدُ البُعداء مَن كان بعيداً في محلّ قُربه، الغريبُ مَن إذا قال لم يسمعوا قوله، وإذا رأوه لم يدوروا حوله، إذا تنفّس أحرقَه الأسى والأسف، وإنْ كتم أكمده الحزن واللهف. بهذه الكلمات وصف "أبو حيّان التّوحيدي" حالة الغريب، الّذي على الرّغم من تأصّله في مجتمعه وناسه، لايزال يشعر بعدم الانتماء، وكأنّه لا ينتمي إلى عالمٍ هو بالأصل عالمُه. هذه الظّاهرة عرّفتها أدبيّات العصر الحديث بظاهرة الاغتراب. والتي ستكون موضوع مقالنا هذا، الذي سنتناول فيه مراحل تطور مضمون الاغتراب وأبعاده ومعانيه، والذي عمدنا على وضعه بين أيديكم لكونه موضوعاً يقع في دائرة اهتمام تخصّصات عدّة، مثل الفلسفة وعلم النّفس وعلم الاجتماع وعلم السياسة وحتى الإقتصاد. فتعالوا معنا لنبحر في أعماق هذه الظّاهرة الّتي كثُرت في مجتمعاتنا المعاصرة.

• مراحل تطور مضمون الاغتراب:

"هيغل" هو أوّل من رفع مصطلح الاغتراب إلى مرتبة الفكر الفلسفي. ومن خلال تتبعنا لدورة حياة هذا المصطلح نلاحظ أنّه مرّ بثلاث مراحل هي:

- المرحلة الأولى: مرحلة ما قبل هيغل: وفيها حمل هذا المصطلح في طيّاته ثلاثة سياقات، هي السّياق القانوني (أي انتقال الشّيء من شخصٍ لآخر)، السّياق الدّيني (انفصال الإنسان عن الله)، والسّياق النّفسي الإجتماعي (اغتراب الإنسان عن ذاته ومجتمعه).

- المرحلة الثّانية: المرحلة الهيغليّة: ويعود الفضل فيها لـ"هيغل" في استخدام مصطلح الاغتراب استخداماً منهجياً مقصوداً، حتّى أُطلق عليه لقب "أبو الاغتراب". وفيها كان مفهوم الاغتراب ذا طابعٍ مزدوج يتناول سلب الحريّة وسلب المعرفة. كما ناقش هيغل حالة الاغتراب من ثلاثة جوانب متعلقة بالشخصيّة والنّظم الاجتماعيّة والثّقافة.

- المرحلة الثّالثة: مرحلة ما بعد هيغل: في هذه المرحلة تمّ تناول هذه الظاهرة من منظورٍ واحد، هو المنظور السّلبي، بشكلٍ طغى على المنظور الإيجابي حتّى كاد ينفيه، ودلّ على كلّ ما يهدّد وجود الإنسان وحرّيته. من هذا المنظور تم التعامل مع ظاهرة الاغتراب على أنها مرضٌ يصيب المجتمعات المعاصرة، وخاصّة الرّأسماليّة منها. من أشهر أعلام هذه المرحلة الماركسيين والوجوديين، من أهمّهم "سارتر".

• معاني الاغتراب:

نتيجة غموض وتشعّب هذه الظّاهرة، عمدت مختلف العلوم على دراستها وتعريفها والوقوف عند خصائصها، وبالتّالي وصل إلى أيدينا معانٍ عدة ساهمت في زيادة إدراكنا لظاهرة الاغتراب ومنها:

- المعنى القانوني: أي تحويل ملكيّة شيء ما من شخصٍ إلى آخر، وهذا يندرج على الإنسان، الذي يصبح كالسلعة، قابلاً للبيع والشراء. أما العلاقات الإنسانية فيمكن إدراجها ضمن هذا المعنى في مفهوم "التشيؤ".

- المعنى الدّيني: يتعلّق بانفصال الإنسان عن الله، أي ارتكابه للخطيئة.

- المعنى الإجتماعي: يدلّ على حالة الانسلاخ سواء عن الذات أو عن الجّماعة، والذي ينجم عنه تعميق الفجوة بين الأجيال، أو انهيار العلاقات الإجتماعيّة.

- المعنى السيكولوجي: يُطلق على حالة فقدان الوعي أو القوى العقليّة، كما يطلق على حالة التّصدع الذّهني.

• أبعاد الاغتراب:

على الرغم من أنّ معظم الفلاسفة والمفكرين لم يتوصلوا إلى تعريف واحد وجامع عن مفهوم الاغتراب إلا أنهم توصلوا لذات الأبعاد والمظاهر، والّتي لخّصها "ملفن سيمان" بخمسة أبعاد، هي:

-العجز: يدور هذا البُعد أساساً حول أمرٍ وحيد هو (الّتوقّع). إذ يضع الفرد نفسه في جملة توقّعات مسبقة للأحداث من حوله، تجعله يعتقد بأنّه غير قادرٍ على التّحكم والسّيطرة بالأحداث الّتي تجري من حوله، بزعم أنّ هناك مؤثّرات خارجيّة أقوى منه قادرة على التّحكم بالحدث، فيعجز عندها عن السّيطرة على تصرّفاته وأفعاله وأقواله، ليبدو له مصيره وكأنّه غريب عنه.

- اللامعنى: أي يجد الشّخص بأنّ الحياة غدت بلامعنى، تسير وفق نسقٍ غير مقبول أو مقبول من وجهة نظره، عندها يفقد قدرته على التّنبؤ بمجريات الأحداث في المستقبل، وتصبح جملة اعتقاداته وتصوّراته باهتة غير واضحة في نظره فيصبح شخصاً لامبالي بما يدور من حوله.

- اللامعياريّة (الأنوميا): صيغ مصطلح الأنوميا أوّل مرة عام 1591، حيث أشار إلى حالة انهيار المعايير النّاظمة للسّلوك الإجتماعيّ، وغرق هذه القيم والقواعد النّاظمة في بحر الرّغبات الباحثة عن الإشباع الذّاتي بأيّ ثمن. وبالتّالي دلّت اللامعياريّة على حالة وعي الفرد بأن ما كان يعتبره خطأً أصبح صواباً، وبأنّ مختلف أشكال السّلوك الّتي كانت مرفوضة أصبحت مقبولة بهدف تحقيق أيّ هدف كان. وغالباً ما يتمّ ربط اللامعياريّة بحالة اغتراب الفرد عن قيم مجتمعه وعاداته وتقاليده وعدم ثقته بما هو رائج ومتعارف عليه.

-العزلة الإجتماعيّة: وفيها يشعر الفرد بالوحدة وعدم الأمان في علاقاته مع غيره.غالباً ما يتم ربط فكرة العزلة عن المجتمع بإحاس المرء بعدم التكيف مع هذا المجتمع وعدم أهمية مقاييس التمجيد فيه.

- الاغتراب عن الذّات: يرى الفرد بأنّ حياته تسير بلا هدف وكأنّه تابعٌ متغيّر، يستجيب لما تفرضه عليه الحياة دون إحداث أي تغيير لتحقيق أهدافه.

وبالحديث عن الذّات ميّز "فروم" بين نوعين من الذّات هما: الذّات الأصيلة الّتي تتّسم بالحبّ والإحساس والّتي حقّقت وجودها الإنساني المتكامل، والذّات الزّائفة الّتي تفتقر لكلّ ما هو جميل وفعّال والّتي انفصلت عن وجودها الإنساني. كما ميّزت "هورني" بين نوعين من اغتراب الذّات: اغتراب الذّات الفعليّة، أي إزالة كل ما كان عليه الكائن من قبل ومحو كلّ ماضيه وكلّ ما يربطه بحاضره وبالتّالي غربته عن معتقداته السّابقة، واغتراب الذّات الحقيقيّة الذي يعني تّوقّف سريان الحياة في الإنسان.

كونو معنا في المقال المقبل لنتحدّث عن أنواع الاغتراب، كالاغتراب الثّقافي والإقتصادي والنّفسي وغيره، وعن الأسباب الّتي أدت إلى وصول المرء لهذه الحالات.

ملاحظة: الصورة هي لوحة للفنانة الأسترالية زوفيا كيجاك Zofia-Kijak، والتي رسمتها بالأسلوب الانطباعي وهي من أحد لوحات الفن الحديث، وعنونت اللوحة " الاغتراب".

المصادر:

دراسات في سيكولوجيا الاغتراب- د.عبد اللطيف محمد خليفة- دار غريب- 2003

Fine art America