العمارة والتشييد > التصميم العمراني وتخطيط المدن

تمر الأزمان وتثبت المدن التاريخية من جديد أنّها أفضل مدّرس للتخطيط العمراني

كلنا كمعماريين ومخططين نعيش دائماً في نزاع بين النظريات التاريخية التي قرأناها وفهمنا فلسفتها في كتبنا وبين ما شجعت عليه أغلب الدراسات التي أُجريت في فترات زمنية تقارب وقتنا الراهن. تتبادر إلى أذهاننا أسئلة: ما هو الفرق الجوهري بين الموروث التاريخي ونظريات القرن العشرين؟ ما هو انعكاسها على القرن الحالي؟ وكيف نستطيع اتخاذ القرار وترجيح كفة عوضاً عن أخرى بهدف خدمة مجتمعاتنا وتزويدها بما تحتاجه؟

مرّ التخطيط العمراني في القرن العشرين بتغييرات نوعية، مشكلةً قالباً جامداً حدّد شروط وصِفات البيئة العمرانية المتعارف عليها حالياً. يتجرأ الكثيرون على وصف هذا القالب بالمعادي للطبيعة البشرية. لحسن الحظ تغيرت الفلسفة التخطيطية والعمرانية في العقود الماضية بشكل رجعت فيه جزئياً لنظريات القرن العشرين. بيّن الكاتب جيمس مورJames A Moore من خلال هذه المقالة بعنوان "ماذا تستطيع المدن المستقبلية تعلمه من المدن التاريخية What the Future of Cities Can Learn From Ancient Cities" في مجلة "خط//شكل//فراغ Line//Shape//Space" ، سبب كون المدن التاريخية أزلية صالحة لكل زمان والدور الذي تستطيع هذه المدن لعبه في إنشاء مدن القرن الواحد والعشرين.

حسب الأسطورة، قابل اثنان من السياح واحداً من أشهر عازفي الكمان في العالم ميشا إلمان Mischa Elman يركض مسرعاً باحثاً عن مدخل قاعة كارنيغيه Carnegie Hall، فسألوه: كيف تمكنت من الوصول إلى هذه القاعة المشهورة والعزف فيها؟ فأجابهم بسرعة وثقة: بالتدريب.

هذه القصة تشير إلى السبب المهم الذي يجذب الناس إلى المدن. لماذا ينتقل الناس للعيش في هوليوود؟ لأنهم يودون الحصول على دور في فيلم سينمائي. لماذا يرغب الناس بالانتقال إلى وول ستريت Wall Street؟ الجواب بسيط، لأن حلمهم الحصول على عمل في مجال الموارد المالية. ففي أفضل الحالات، تساعد المدن الناس على تحقيق أحلامهم.

تشير التوقعات إلى أنّ ثلثي الكثافة السكانية العالمية ستعيش ضمن مستوطنات حضرية بحلول عام 2050، ويعود ذلك نسبياً إلى رغبتهم بتحقيق آمالهم وأحلامهم ضمنها بسرعة وبكفاءة عالية وذلك من مختلف النواحي، زمنياً ومالياً، في مكان متعدد الموارد.

بينما يتجه العالم بخطى ثابتة للعيش في المناطق الحضرية، تنشأ نقاشات هامة حول ماهية المدن المستقبلية، كيفية تخطيطها وتنظيمها وكيف تستطيع أن تلعب دوراً فعّالاً في تحسين نوعية حياة سكانها. هذه النقاشات تتحدى في أغلب الأحيان نظريات القرن العشرين التي عزّزت حينها التغييرات الكبيرة التي طرأت على منهج التخطيط العمراني وعلى أغلب المدن التي ظهرت في ذلك الوقت.

من مميزات هذه الظاهرة، أنه خلافاً لأشكال أخرى من اختراع الإنسان، لا تُبطل المدن في إصداراتها الحديثة بالضرورة الإصدارات القديمة. فمواطنو الشرق الأوسط يسكنون مدناً يتجاوز عمرها الـ 2000 سنة. أما سكان أوروبا يتجاوز تاريخ بعض مدنهم الـ 1000 عام، ولا تتجاوز مدن الولايات المتحدة الأمريكية كبوسطن وفيلادلفيا الـ 500 عام.

-----------------------------------------------------------------------------

تاريخ المدن يعيد ويكرر نفسه بمرور السنين:

إن العيش ضمن مدن تاريخية اختُبرت بمرور الزمن من النواحي الوظيفية والمكانية يفضَّل ويغني عن السكن في بيوت يعود عمرها لبضعة قرون فقط. ولجعل المدن المستقبلية مزدهرة وحيوية، على الناس أن يعيدوا دراسة الفروقات بين المزايا المختلفة للمساكن الموجودة وتقييم فوائدها.

كان الباحثون العمرانيون في القرن العشرين متأكدين من أن شروط الحياة الحديثة بما تحويه من سيارات، هواتف وغيرها من الاختراعات التي أصبحت أساسية في هذا العصر، تختلف اختلافاً مذهلاً عن أي شيء تمّت تجربته من قبل. فقاموا برفض معايير وتطبيقات سابقة، تم شحذها وتطويرها واختبار نسبة خطئها خلال قرون عدة، وعوضاً عن إنشاء الأحياء والمناطق المتعددة الاستعمالات والوظائف المؤلفة من الوحدات السكنية، المتاجر، المدارس، والمنشآت الثقافية والترفيهية، عمد المخططون العمرانيون إلى فصل هذه الوظائف عن بعضها وعزلها ضمن وحدات متخصصة بكل وظيفة في مناطق محددة في المدن، والّذي أدّى بدوره إلى ازدياد الازدحام المروري.

تتغير التقنيات باستمرار وبسرعة مذهلة بينما يتغير الناس ببطء، والأشياء التي جذبت الناس إلى مدن إيطاليا في عصر النهضة وهولندا في عصر الإصلاح وانكلترا الصناعية ما زالت إلى الوقت الحاضر تستقطب الناس بفرص العمل ومختلف الوظائف المتاحة، الحياة الاجتماعية، الإثارة والمتعة، الاستقلالية والحرية. حيث تقوم هذه المدن بالتذكير وبإحياء بعض الجوانب الإنسانية الأساسية التي بدت منسية في الحقبة الجديدة المعاصرة.

تميز القرن العشرين بكونه عصر السيارات والسرعة، بينما يتميز قرننا الحالي الواحد والعشرون بكونه عصر الكومبيوتر والمعلوماتية. فإذا كانت السيارة عبارة عن عامل للتّشتت والتفريق، أصبح الحاسب ظاهرة عاجلة الزوال. ويبقى السؤال لماذا تعمد الشركات الضخمة كغوغل وتويتر على نقل مقراتها إلى مراكز المدن؟ الإجابة بسيطة: لأن موظفيها يرغبون بالسكن هناك، عوضاً عن الإقامة بمكان معزول في الضواحي. فهم لا يريدون السكن في مناطق تبعد ساعتين عن أقرب مدينة مأهولة أو عيش حياتهم الكترونياً عن طريق برنامج محادثات أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

-----------------------------------------------------------------------------

حافظ على الوقت والنقود في المدن ذات الوظائف المختلَطة:

أكثر ما يرغب به الناس هو الحفاظ على الاتصال السهل بالعائلة، الأصدقاء والزملاء. يرغبون بأماكن للتسوق، أماكن للاستجمام وأماكن للتمتّع بوجبات الطعام والشراب. حتى في عصر وسائل ومنصات التواصل الاجتماعي المنتشرة عالمياً، لا يزال الناس يريدون الوجود في مجتمع مدني وهذا ما تستطيع المدن التميُّز بتقديمه لساكنيها طالما أنّ الهدف هو تطوير المدينة بتخطيطها ومختلف تصاميمها من أجل الناس أنفسهم.

يتحلّى دور البنى التحتية في المساعدة على تحقيق احتياجات وطموحات السكان الذين يعيشون في المجتمع. كان أساس تخطيط مدن القرن العشرين قائماً على فلسفة جعل البنية التحتية هي الهدف، بشكل تناقض فيه فلسفة المدن التاريخية والمدن المعاصرة التي تعتبر البنية التحتية أداةً وليست هدفاً. المواصلات السهلة والسريعة هي حاجة أساسية في هذه الأيام، لكن هذا لا يعني أن الناس يصرّون على الحصول على شبكات مواصلات لكل زاوية من زوايا الحي، ولا يفضّلون بالتأكيد زيادة عدد الشوارع المزدحمة. ففي حالات كثيرة قد يكون طريق للدّراجات الهوائية أو أرصفة للمشاة هي كل ما يحتاجونه. لهذا السبب تقوم أبحاث ودراسات بشكل خاص في أوروبا وبعض المدن الأمريكية بهدف اكتشاف المزيد حول هذا الموضوع وتسليط الضوء عليه. فالنقل يصبح الموضوع الطاغي بشكل أساسي على كافة جوانب الحياة عندما تكون البنية التخطيطية في المدينة تتطلب ذلك بسبب فصل الوظائف اليومية عن بعضها البعض بمسافات بعيدة، وهذا ما كانت تدعو إليه فلسفة القرن العشرين.

في النهاية، تتميز المدن ذات الوظائف المدمجة والمتعددة بكونها أكثر كفاءة من المدن التي تعمد إلى فصل أجزائها بحسب الوظائف السائدة فيها. فعوضاً عن إهدار الوقت في القيادة بين الأجزاء المختلفة للمدينة يمكن الاستفادة منه في النشاطات الترفيهية. ويمكن تسخير الطاقة المستخدمة لنقل آلاف الأطنان من الحديد والصلب والبلاستيك في توفير خدمات أخرى أكثر ضرورةً. كما يمكن إنفاق المال الّذي يُصرَف على بناء المزيد من الطرق السريعة في إثراء حياة سكان المدينة.

إنَّ فهم هذه السياسة، تبنّيها والمضي قدماً فيها، مطلبٌ أساسي في الوقت الراهن، لأنّ أغلب سكان العالم يهدفون إلى العيش في مجتمعات حضرية معينة، وعلى هذا يُفترض أن يتحسّن مستوى حياتهم ضمن هذه المدن. ولتحقيق هذا الهدف على المدن أن تكون متنوعة، متكاملة، مهيّأة لاستعمال الدارجات الهوائية، مهيّأة للمشي، متعددة الوسائط ومبنية على أساس دراسة المجتمعات والمدن القديمة والأخذ بدروسها التاريخية المطوَّرة عبر آلاف السنين والاستفادة منها في بناء مدننا الحالية.

توقعت نظريات القرن العشرين أنَّ كل اختراع وتقُّدم تقني جديد سيكون له تأثيرٌ جذري وهام على التخطيط العمراني، التصميم العام وطريقة عمل المدن المختلفة. لكن التاريخ يؤكد عكس ذلك. حيث توجد مدن كثيرة اجتازت اختبار عامل الزمن، لتبرهن أن أساليب وأنماط وفلسفات بناء محددة أثبتت على مر العصور قدرتها على استيعاب التقنيات الجديدة المرافقة لها والتي تؤكد بنفس الوقت أن سبب رغبة الناس بالانتقال للمدن الحضرية هو كافة العوامل والوظائف مجتمعة من سكن وعمل وترفيه مؤمّنين بذلك وسيلة صحية لعيش حياتهم وتحقيق أهدافهم الفردية والجماعية.

تختلف النظريات والفلسفات بمرور العصور، بعضها يؤكد صحة بعض وجهات النظر وبعضها الآخر ينفيه. إلا أن النقطة الجوهرية التي يجب علينا الوقوف عندها هي تحقيق احتياجات الناس ومطالبهم وفق بيئات صحية متوازنة، حاضنة لكافة نشاطاتهم ومساعِدة على تحقيق أهدافهم وتطلُّعاتهم.


المصدر:

هنا