الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة

علوم الإنسانيات والأخلاق في ظل التطور التكنولوجي

لا أحد منّا يُنكر أن حجم التقدم العلمي والتكنولوجي الهائل الذي حصل ويحصل في العالم قد بلغ حدّاً غير مسبوق، وهو يزداد يوماً بعد يوم. ولكن هل يتزامن هذا التقدم العلمي مع السلوكيات الإنسانيّة؟ لماذا تزداد الحروب وتزداد الفجوة بين دول الشمال والجنوب؟ ألم تزل المجاعات بجنوب إفريقيا مثلاً هي نفسها منذ أكثر من قرن؟ أليس من المفترض ألّا نحتاج للسلاح لأننا ارتقينا وتقدمنا؟ وأليس من المفترض أن تتحسن أخلاقنا ونفوسنا وأن يصبح سكان الكرة الأرضية وحدة واحدة تجمعهم إنسانيتهم؟ ألسنا نحن اليوم في قمة سُلَّم الجهل من الناحية الإنسانية؟ عن الهوة الحاصلة بين التقدم المتسارع والتكنولوجيا الحديثة وبين الإنسانيات والأخلاق نتحدث. إليكم هذا المقال.

إنّ عدم التوازن بين التقدم العلمي الحاصل والتكنولوجيا المتسارعة الحديثة وبين الإنسانيات هو أبرز ما يميز هذا العصر. كان هناك قديماً اتصالٌ كبير لحد التمازج السلبي بين الرياضيات مثلاً والعلوم النفسية والدينية، والذي أثرَّ سلباً على علوم الطبيعة والإنسانيات. ثم حدث فصلٌ بينهما، فصلٌ كان مفخرة وإنجازاً كبيراً للكثير، فانقسم رواد العلمين إلى علماء وفلاسفة، ومن ثم رجع التواءم على يد علماء ومفكرين أمثال اينشتاين، الذي حاور في الفيزياء والفلسفة. في هذه الأيام يطلق على التواءم المحدود بين العلوم والفلسفة بالعلم الحديث.

تبلورت فكرة التقدم خلال القرن السابع عشر، وخصوصاً مع عصر التنوير، عصر الاعتزاز بالمعرفة والإيمان بالعقل، حيث حمل نخبة من المفكرين والمثقفين من أمثال فولتير ومونتسكيو وكوندريسه وغيرهم من المفكرين الموسوعيين هذا المفهوم، وآمنوا بالتغيير وجعلوه شعاراً لهم. كما أدت الكشوف العلمية التي توصل إليها الإنسان (خصوصاً في مجال العلوم كالفيزياء والكيمياء والرياضيات والفلك) إلى تبني فكرة التقدم والدفاع عنها.

وكان تنامي النزعة الإنسانية وقيام الحركات الإنسانية التي أعلت من شأن الإنسان وقدراته اللامتناهية، جعل فكرة التقدم تلقى تداولاً كبيراً لدى المثقفين والمفكرين.

إضافة إلى أن هذا العصر شهد سيادة فلسفة عقلية تجريبية ترفض الميتافيزيقا والدين وتهتم بالرياضة والفلك والطبيعة والكيمياء والتاريخ والجغرافيا والطب، فلسفة تؤمن بالتغيير وتسعى إلى التجديد في كل شيء، تحدوها ثقة مطلقة في العقل ويدور التفكير فيها حول الإنسان وهذا ما يفسر بروز الاتجاه العقلاني بالتفكير أو ما يسمى العقلانية.

وكان الاهتمام بالتاريخ في هذا القرن مظهراً من مظاهر الاهتمام بالإنسان، حيث لم يصبح التاريخ مجرد سردٍ لأحداث معارك وسِير الملوك وأخبار البلاط، وإنما شمل التاريخ شتى مظاهر النشاط الإنساني ممثلاً في الجوانب المختلفة للحضارة من عادات ومعتقدات وتشريع وعلم وفلسفة وفن وتكنولوجيا وتجارة وصناعة. إن الحروب وسير الملوك لا تفصح عن التقدم بقدر ما تفصح عن نشاط الشعب في مجالات العلم والفن والفلسفة والأدب والتكنولوجيا وغير ذلك.

هذا كان عرضاً سريعاً للفترة التي حدث فيها تواءم بين العلوم النظرية والتطبيقية. ولكن النقطة الأبرز أنه كان هناك إعلاء للقيم الإنسانية والأخلاق بالتزامن مع الثورات الهائلة التقنية والاكتشافات التي غيرت كثيراً في مسار العلم. إن ما نشكو منه اليوم هو الهوة المتزايدة عمقأً بين تقدمنا الماديّ السريع الذي يزيد خروجنا من عزلتنا اليوم وبين التقّدم الخلقي البطئ الذي لا يسمح لنا بأن نواجه العواقب لهذا الخروج من العزلة.

فبينما كان التقدم صاعداً ومتسارعاً في اكتساب المعارف وفي تطور العلوم وفي تكييفها التكنولوجي وفي إنتاج الثروات وتوزيعها، كان تطور الذهنية والسلوكيات الإنسانية متقّلباً وغير ملائم بصورةٍ فاجعة.

ويقول أعظم مفكري القرن الحالي هوايتهد، أن التغيرات الأساسيّة في العلم كانت دائماً مقترنةً بمزيد من التعمق في الأسس الفلسفية. كما ويسلط الضوء على الهوة بين التقدم العلمي والفشل في تفهم المشاكل الإنسانية، والتي تُعتبر من أهم المشكلات التي لم يُوجد لها حل بعد.

وهناك غرضين فرضيين أساسين للنظريات:

- الاستخدام في بناء الأجهزة والتدابير (أغراض تكنولوجيا).

- الاستخدام في التوجيه المباشر للسلوك البشري.

والقبول الفعلي للنظريات دائماً هو تسوية بين القيمة التكنولوجية والاجتماعية للنظرية، وخدمة العلم من خلال تفسيراته الميتافيزيائية للسلوك البشري واعتباره موجه له.

أي أنه لا جدوى تذكر من تقدم حاصل في علاج الأورام السرطانية مثلاً دون أن يكون متزامناً مع التقدم السلوكي والأخلاقي عند البشر. وإلا فإننا نعمل هباءاً، لتكون وقابلية الاندثار وشيكة بأي لحظة عند أي تحسن ملموس.

إنّ الأرض القوية والقاعدة الأساس المتينة هي التي تحفظ العلم. إنّ القاعدة هي الأخلاق الإنسانية والتي نستطيع التعويل عليها وحدها إن أردنا الحفاظ على جهد المفكرين والعلماء بكافة الميادين والأصعدة. لكي نعيش بعالم أفضل يسوده السلام، يجب علينا أن نزاوج بين العلوم والإنسانيات، وهذا لكي نخرج من عصرنا البربري والذي من الممكن بلحظة طيش أو قرار غير متزن أن ينسف كل شيء ويعيدنا لنقطة الصفر وما دون ذلك. إن التقدم المادي مفيد وضروري ومهم لكنه وحده لا يكفي، لذلك وجب ربطه على قدم المساواة مع التقدم الأخلاقي والإنساني وجعل هذا الاخير هو الأولوية التي إذا ما اهتممنا بها نستطيع القول بحقّ أننا في حالة تقدّم حضاريّ متزّنٍ ومستدام.

إن التركيز على الأخلاق والإنسانيات ليس ترفاً فكرياً وليس بطراً، إنها حاجة ماسّة وملحة وضرورية وكل ما عداها هامشيّ. عندما نعمل ونركز على هذا الجانب، سوف يحدث تلقائياً طفرات علمية وثورات غير مسبوقة بعالم الطب والفيزياء والرياضيات والعلوم الأخرى وهذا ما حصل بعصر النهضة سابقاً.

المراجع:

1- فلسفة العلم،فيليب فرانك، ترجمة د.علي ناصف ناصف،( بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1983).

2- اختلال العالم،أمين معلوف،ترجمة ميشال كرم،( بيروت:دار الفارابي،الطبعة الأولى،2009).

3- يوسف الكلاخي، مفهوم التقدم في التاريخ، مجلة الحوار المتمدن، رقم العدد: 3595 2012 ،

هنا