البيولوجيا والتطوّر > التقانات الحيوية

التعديل الوراثي في الحياة البرية... نعمةٌ أم نقمة؟

على الرغم من التقدّم العلمي الكبير في علوم الهندسة الوراثية والتقنيات الجديدة التي مكّنت الباحثين من إدخال العديد من المورّثات المعدّلة مخبرياً إلى DNA الكائنات الحية، إلّا أنّه ما يزال هناك تخوّفٌ كبير من الأثر الذي يمكن أن يتركه هذا التعديل الوراثي على الأنظمة البيئة، وخاصّةً إذا كانت التعديلات غير قابلةٍ للعكس.

نُشرت دراسةٌ في مجلة العلوم Science تُظهر إمكانية استخدام تقنية التعديل الوراثي لإدخال طفرةٍ إلى ذبابة الفاكهة يُمكن أن تنتقلَ إلى معظم ذُريتها. يرى أستاذ البيولوجيا الجزيئية في جامعة كاليفورنيا أنتوني جيمسAnthony James أنّ هذه الدراسة بمثابة معجزة، خاصةً إذا ما تمّ تطبيقها على البعوض (نظراً لكون هذه الحشرة هامة طبياً كونها تعتبر ناقلاً للعديد من مسببات الأمراض الخطيرةً للإنسان كالملاريا وحمى الضّنك). يبدو الأمر جيداً إلى الآن ولكن، ماذا يُمكن أن يحدثَ إذا ما هربت إحدى هذه الذبابات المُعدّلة وراثياً من المختبر؟ ببساطة، ستنتشر الطفرة سريعاً في مجتمع الذباب البري (الذي لم يُربّى في المختبر) ولن يكون من السهل إعادة السيطرة على هذه المجتمعات.

وبالطبع، كما أنَّ لكلّ تدخّلٍ للإنسان في الطبيعة فوائدَه، فإنّ له عواقبَه أيضاً! ولمعرفة تَبِعاتِ تطبيق ما جاءت به هذه الدراسة، عقدت الأكاديمية الأمريكية للعلوم والهندسة والطب (NAS) سلسلة اجتماعات لتقدير مزايا ومخاطر استخدام هذه التقنية المسماة "قيادة المورثة Gene drive "والتي لا يقتصر عملها على تسريع التعديل في كائنٍ حي واحد فحسب، بل في كامل مجتمع هذا الكائن الحي. وذلك من خلال إجراء التعديل الوراثي بإدخال المورثة المرغوبة إلىDNA الكائن الحي مؤديّةً بذلك إلى زيادة معدّل انتقال التغيير إلى الجيل التالي.

إنّ فكرة "قيادة المورثة" ليست بجديدةٍ، فهي معروفة منذ أكثر من عقد، ولكن منذ ثلاث سنوات فقط تمّ التركيز على التطبيق العملي لها خاصةً بعد الاعتماد على تطبيقات CRISPRالتي تسمح بإجراء تغييراتٍ دقيقة في الحمض النووي DNA للكائن الحي. وكون الباحثين القائمين على الدراسة قد استخدموا تقنية CRISPR لإجراء التعديل الوراثي على المورّثات في كِلا الصبغيين القرينين عند الذباب، فإنّ التعديل سينتقل إلى جميع أفراد النسل عند تكاثره. (لمعرفة المزيد عن تقنية CRISPR يرجى الضغط هنا)

قد يراود معظمنا سؤالٌ يتعلّق بأهمية هذا الإنجاز في الحياة العملية، في الحقيقة جاء هذا العمل تلبيةً للرغبة في تطوير نظامٍ يُسهّل دراسة التغيّرات الوراثيّة في الكائنات الحية التي يصعب إكثارُها في المختبر، ونظراً لإمكانية استخدام CRISPR في شريحةٍ واسعةٍ من الكائنات، يأمل الباحثون أن يتمكنوا من تطبيق الهندسة الوراثية في مجتمعات الأحياء البرّية بطريقةٍ مشابهة. حيث من الممكن الاستفادة من هذه التقنية في جعل البعوض عاجزٍ عن حمل طفيليات الملاريا أو من أجل القضاء على الأنواع الضارّة، ولكن قد يكون لهذه التقنية أيضاً تأثيرات بيئية غير متوقعة وغير قابلة للعكس، إذ أنّ التخوّف الأكبر يدور حول إمكانية التحكم في هذه المورثات ثانيةً بعد انتشارها في المجتمعات البرية للأحياء.

وقد أعرب العديد من العلماء عن قلقهم حيال التطوّر السريع لتقنية CRISPR لقيادة المورّثة، وقدرتها على إحداث تغييرات كبيرة في الأنظمة البيئية بطرقٍ غير متوقّعة، مما يستوجب وجود استراتيجيات متعددة لاحتواء الأبحاث التي يتم إجراؤها في المختبر حول تقنية "قيادة المورثة". ويدرس Esvelt المهندس الحيوي في مدرسة هارفارد الطبية وزملاؤه نظام CRISPR لقيادة المورثة في الدودة الخيطيّة Caenorhabditis elegans للتعرّف أكثر على ما سيحدث ضمن مجتمعات الكائنات الحيّة عندما يتمّ نقل الـ DNA المعدّل للأجيال التالية، وكيفيّة تراكم الطفرات عندئذٍ. كما أنّهم يختبرون عدة وسائل للتأكّد من إمكانيّة إبطال مفعول هذا التعديل بعد إطلاق هذه الكائنات في بيئاتها. وبالطبع، لا تزال الدراسات مستمرة في هذا المجال للوصول إلى أفضل تقنيات التعديل الوراثي بأقل المخاطر والأضرار على النظام البيئي ككل.

*: CRISPERs هي عبارة عن تتابعات قصيرة من الـ DNA توجد في جينوم البكتريا (وغيرها من الكائنات المجهرية) تساعد في حماية البكتريا من الفيروسات الغازية (أي أنّها تعتبر جزءاً من المنظومة الدفاعية عند بعض الأحياء الدقيقة) وقد تمّت الاستفادة من هذا التتابع الفريد في زيادة مناعة المزارع البكتيرية المُنمّاة لأغراض صناعية أو طبية أو بحثية.

المصادر:

هنا

هنا