المعلوماتية > الذكاء الصنعي

جولة تعريفية في عالم الذكاء الصنعي - الجزء الثاني

في الجزء الاول من مقالنا عن الذكاء الصنعي، رأينا كيف أنه يساعدنا على فهم الخصائص البشرية أكثر، والتي إذا ما فهمناها، سنكون قادرين على تطبيقها على الآلات ليكون لدينا ما يمكن أن نسمية «آلات ذكية». كما رأينا كيف تـتـعـدّد تعريفات الذكاء الصنعي، إذ أن هناك العديد من التعريفات بحسب الخبراء الذين يقومون بدراسة هذا المجال.

(يمكنك قراءة المقال الأول من خلال هذا الرابط: هنا)

في مقالنا اليوم، نستعرض سويةً المناهج الأربعة التي تم اتباعها عبر تاريخ مجال الذكاء الصنعي بحسب تطبيقاته الكثيرة. يندرج اثنان منها تحت إطار عمليات التفكير والمنطق. أما الاثنان الآخران يتناولان السلوك والأداء. كما يقيس المنهجان الأوّلان ذكاء الآلة مقارنة بالبشر، بينما يقيس النوعان الأخيران الذكاء وفقًا لمرجعية مثالية للذكاء يمكن تسميتها بـ«العقلانية»، إذ يكون نظامٌ ما عقلانيًا عندما يتصرف بشكل صحيح بحسب مرجعية معينة.

المنهج الأول: تطوير أنظمة تفكِّر مثل البشر:

ويُسمّى أيضاً منهج نمذجة الإدراك (The Cognitive Modelling Approach). ينطلق هذا المنهج من دراسة وتحديد طريقة تفكير البشر من خلال التعمق في كيفية عمل عقل الإنسان من خلال عدة طرق، أولها عملية الاستبطان؛ وتعني محاولة التقاط الأفكار عندما تمرّ برؤوسنا. أو عن طريق التجارب النفسية التي تسمحُ بمراقبة الشخص أثناء تفاعله ونشاطه. أو عن طريق تصوير الدماغ لنتمكنَ من رؤية أنشطته. وبعد الوصول إلى نتائج دقيقة، نقوم بالتعبير عنها باستخدام برنامج حاسوبي.

عملية نمذجة الإدراك هامة جداً في فهم كيفية حل الدماغ البشري للمشكلات، وهذا لن يتحقق إلا في حال وجود نموذج حاسوبي قادرٍ على التصرف بذكاء كالإنسان، والتأكد من أن سلوكيات هذا النموذج (التابعة للتوقيت والمدخلات والمخرجات) تشابه سلوكيات للبشر في ظروف مشابهة.

أحد أهم الأمثلة على البرامج التي تحاكي قدرة البشر على حل المشكلات هو الـGPS كاختصار لـ General Problem Solver (توضيح: لا علاقة للاختصار هنا بنظام التموضع العالمي المستخدم في برامج الخرائط)

والذي كان له أثرُ كبيرُعلى اتجاه علم النفس المعرفي لاحقاً. كان الهدف من تطوير برنامج GPS هو توفير مجموعة أساسية من العمليات التي يمكن استخدامها لحل أنواع مختلفة من المشاكل. وتعتبر أهم خطوة لحلِّ مشكلة باستخدام هذا البرنامج هي تعريف فضاء المشكلة من حيث الهدف المراد تحقيقه وقواعد التحويل. وباستخدام نهج means-end-analysis، يقوم البرنامج بتقسيم الهدف الكلي إلى عدة أهداف فرعية ومن ثمّ حلّ كل منها على حدى. من الجدير بالذكر أن مطوّري هذا النظام لم يكن هدفهم تطويرُ نظام قادر على حل المشكلات وحسب، بل كانوا مهتمّين أكثر بالخطوات التي يتخذها البرنامج في عملية الاستدلال ومقارنتها بخطوات البشر عندما يقومون بحل المشكلة نفسها. وهذا يخالف هدفَ باحثين آخرين مهتمّين بتطوير برامج قادرة على الإجابة بشكل صحيح بغضِّ النظر عن كيفية قيام البشر بذلك.

المنهج الثاني: تطوير أنظمة تتصرف مثل البشر:

يُسمّى أيضاً منهج اختبار تيورينغ (The Turing Test Approach)، والذي سُمي بذلك نسبة إلى مقترِحهِ “Alan Turing” الذي وضعِ اختباراً سمّاه «لعبة التقليد»، صُمِّمَ لتقديم تعريفٍ تنفيذيٍّ مقبول للذكاء. وقد عُرِّف فيه التصرف الذكي على أنه القدرة على تحقيق الأداء العالي للبشر في جميع المهام الإدراكية.

تجتاز الآلة أو البرنامج الاختبار إذا استطاعت إقناع لجنة من الحكام على أنهم يتعاملون مع بشر وليس مع آلة بأكثر من 30 بالمئة من الوقت المخصص، مع تجنب الاتصال الفعلي بين لجنة التحقيق والكومبيوتر لأن المحاكاة الجسدية غير ضرورية في تطبيقات الذكاء الصنعي.

هناك عدّة قدرات يجب أن تمتلكها الآلة لاجتياز هذا الاختبار وهي:

- القدرة على معالجة اللغات الطبيعية، لتكونَ هذه الآلة قادرة على التواصل باللغة الإنجليزية أو أي لغة أخرى.

- القدرة على تمثيل المعرفة، لتكونَ الآلة قادرة على تخزين المعلومات المقدَّمة قبل أو أثناء الاختبار.

- المنطق أو المحاكمة الآلية، بحيث تكون الآلة قادرة على استخدام المعلومات المخزّنة للإجابة على الأسئلة واستخلاص الاستنتاجات الجديدة.

- القدرة على التعلم، لكي تتكيف الآلة مع الظروف الجديدة ووتكون قادرة على اكتشاف واستقراء الأنماط.

يجب أن تتصرف هذه الآلات وفقًا لاتفاقيات معيّنة طبيعية للتفاعل البشري حتى تجعل من نفسها أشياءً يمكن فهمها.

(يمكنكَ أن تقرأ في مقال سابق عن أول برنامج حاسوبي يجتاز اختبار تيورينغ منذُ اقتراحه قبل 65 عاماً. هنا)

المنهج الثالث: تطوير أنظمة تفكّر عقلانياً (منهج قوانين الفكر):

كان الفيلسوف الإغريقي أرسطو من أوائل الذي حاولوا وضعَ وتنسيقَ قوانين التفكير الصحيح؛ وهي عمليات المنطق غير القابلة للجدل. وقد قدم قاعدته الشهيرة التي تسمى «القياس المنطقي»، والتي دائماً ما أعطت استنتاجاتٍ صحيحة إذا ما زُوّدت بمقدماتٍ منطقية صحيحة. كأبسط الأمثلة على قاعدة القياس المنطقي، إذا كانت المعطيات هي جملتَي: "سقراط رجلٌ" و"كل الرجال بشر" الاستنتاج المنطقي سيكون “سقراط بشر”!

وقد وضع علماء المنطق في القرن التاسع عشر منهاجاً دقيقاً لتوصيف جميع أنواع الأشياء الموجودة في العالم والعلاقات بينها. وفي عام 1965، أصبح هناك برمجيات قادرة- نظرياً- على حلِّ أي مشكلة قابلة للحل موصوفة مسبقاً في ذلك المنهج.

يطمحُ هذا الاتجاه ضمن مجالات الذكاء الصنعي إلى إنشاء مثل هذه البرامج لتكوِّنَ أنظمة ذكية، ولكنه ليس بالاتجاه السهل، إذ أن أول العوائق هنا هي أن حل المشاكل عملياً يختلف كثيراً عن الحل النظري، فحتى المسائل التي تحتوي على بضعِ مئات من الحقائق فقط يمكنُ أن تستنفدَ الموارد الحسابية لأي حاسوب إلا في حال وجود بعض التوجيهات لإرشاده حول أيِّ الخطوات المنطقية اعليه تجربتها أولاً. كما أنه من الصعب تحويل المعرفة غير الرسمية وغير المثبتة بنسبة 100% إلى صيغة رسمية كما هو مطلوب في المنهاج المنطقي.

المنهج الرابع: تطوير أنظمة تتصرف عقلانياً (منهج الوكيل العقلاني):

في هذا المنهج، يمكنُ النظر إلى الذكاء الصنعي على أنه دراسة وإنشاء لما يُسمّى بـ«الوكيل الذكي»، إذ يُعرَّف الوكيل في هذا السياق على أنه أي كائن (سواء كان بشرياً أو اصطناعياً) قادرعلى الإدراك والتصرف.

تعدُّ القدرة على الاستدلال الصحيح (والتي هي الهدف الأساسي من النهج الثالث) جزءًا من مواصفات الوكيل، لأن إحدى الطرق التي تؤدي إلى التصرف العقلاني هي التفكير المنطقي الذي يؤدي إلى استنتاج أن عملاً ما سيحقّقُ أهدافاً معينة، ومن ثم التصرف بناء على هذا الاستنتاج.

ولكن القيام بالاستدلالات صحيحة ليس الشيء الوحيد المرتبط بالعقلانية، لأنه غالباً ما تكون هناك حالات لا يوجد فيها شيء معيّن وصحيح ومبرهَن يجب القيام به، ولكن ما زال على «الوكيل» أن يقوم بفعل ما. كما أن هناك طرق أخرى للتصرف العقلاني التي لا يمكنُ القول بأنها تشمل استدلالاً. على سبيل المثال، أن يسحب شخصٌ ما يدَه من على الفرن الساخن هو تصرفٌ لا إرادي أكثرُ نجاحاً من أي تصرف بطيء آخر قد يتم اتخاذه بعد تفكيرٍ متأنٍ.

لتطوير أنظمة تتصرف عقلانيًا، نحتاج إلى جميع المهارات المعرفية اللازمة لاجتياز اختبار «تورينغ» المذكور سابقًا. وبالتالي، نحن بحاجة إلى القدرة على تمثيل المعرفة واستخدام المنطق معها، لأن هذا يجعلنا قادرين على الوصول إلى القرارات الصحيحة في مجموعة كبيرة من الحالات والمواقف المختلفة. كما أننا بحاجة إلى توليد جمل مفهومة باللغات الطبيعية، لأن استخدام مثل هذه الجمل يساعدنا على التعامل بشكل جيد مع مجتمع معقّد. بالإضافة إلى أن الهدف من التعلم ليس فقط اكتساب معرفة واسعة، بل لأن هذه المعرفة ستجعلنا قادرين على توليد استراتيجيات أكثر فعالية للتعامل مع هذه العالَم. والهدف من الرؤية البصرية ليس مجرد المتعة، بل لنحصل على فكرة أفضل لنتيجة قيامنا بفِعل/إجراء معين. على سبيل المثال، القدرة على رؤية وجبة لذيذة يساعدنا على التحرك باتجاهها.

لذلك فإن دراسة تصميم الوكيل الذكي لها ميزتان. الأولى أنها أكثر عموميّة من نهج قوانين الفكر، لأن القيام بالاستدلالات الصحيحة (والتي هي أساس النهج الثالث) قد يعدُّ مفيدًا في حالة الوكيل الذكي لكنه ليس ضروريًا. أما الثانية فهي أنها أكثر قابلية للتطبيق والتطوير من المناهج القائمة على السلوك البشري أو الفكر البشري، وذلك لأن معيارَ العقلانية معرّف بشكل واضح وعامّ.

تم استخدام المناهج الأربعة عبر التاريخ. وكما قد يتوقع أحدنا، يوجد خلاف بين النوعين المتمحورَين حول البشر، ومن جهة أخرى بين النوعين المتمحورَين حول العقلانية. إذ يجب أن يكونَ النهج المتمحور حول البشر علمًا تجريبيًا يتضمنُ فرضيات وتجارب، أما نهج العقلانية فهو مزيج بين الرياضيات والهندسة. ودائمًا ما يطعن المهتمّون بكل قسم بإنجازات القسم الآخر، لكن الحقيقة هي أن كل اتجاه منهما قد حقق رؤًى قيّمة.

------------------------------------------------

المصادر:

هنا

هنا

هنا هنا

هنا