المعلوماتية > الذكاء الصنعي

جولة تعريفية في عالم الذكاء الصنعي - الجزء الأول

يمتلك البشر قدراتٍ عقلية متميزة ومنهجاً مثيراً للاهتمام لحل المشاكل التي يواجهونها بشكل يومي، ويعتمدون في هذا المنهج على التفكير المجرد والمنطق التداولي* عالي المستوى وتمييز الأنماط. من أهداف مجال الذكاء الصنعي مساعدتنا على فهم هذه الخصائص البشرية، من خلال إعادة بنائها وتطبيقها على الآلات المصمّمة لتأدية العمليات الحسابية - الميكانيكية باستخدام قواعد مبرمجة وثابتة، ومن ثمّ تحسين تلك الخصائص لتتفوق على قدراتنا الحالية، لتكون بعد ذلك هذه «الكائنات الاصطناعية الذكية» محطّ دراسة بحدّ ذاتها لما تقدّمه من فوائد حتى في المراحل المبكّرة من تطويرها.

ولكن، كيف يساعدنا الذكاء الصنعي على فهم الخصائص البشرية؟

لنفترضَ أننا سنقوم بصنعِ برنامج قادر على لعب الشطرنج. أول ما سنقوم به هو إجراء التجارب على الإنسان لمعرفة طريقة تفكيره وكيفيةيتصرّفه عندما يواجه حالاتٍ معينة، ومن ثم تطبيق النتائجِ على هذا البرنامج، وبهذا نكون قد اكتشفنا المزيد عن الإنسان وخصائص تفكيره وسلوكه.

على الرغم من أن مجال الذكاء الصنعي يعد مجالاً حديثاً نسبياً، إلا أنه استمد الكثير من الأفكار ووجهات النظر والتقنيات من مجالات أخرى، إذ تعدّ دراسة «الذكاء» من أقدم التخصصات، حيث حاول العلماء والفلاسفة منذ أكثر من 2000 عام فهم عمليات المشاهدة والتذكر والتعلم والمنطق عند الإنسان. وبعد ذلك، أدى ظهور أجهزة الكومبيوتر في أوائل خمسينات القرن الماضي إلى تحويل هذه التكنهات حول قدرات الإنسان العقلية إلى علم تجريبي ونظري حقيقي، مما دفع العلماء إلى التوقع بأن هذه «الأدمغة الإلكترونية الفائقة» سيكون لديها إمكانات غير محدودة، لدرجة أنه في ذلك الوقت، ظهرت الكثير من العناوين التي تصف هذه الأجهزة بأنها «أسرع من أينشتاين»!

يشملُ الذكاء الصنعي حالياً مجموعة واسعة جداً من المجالات التي تتدرّجُ من المجالات العامة مثل الإدراك والتفكير المنطقي إلى المهام الخاصة مثل لعب الشطرنج وإثبات النظريات الرياضية وكتابة الشعر وتشخيص الأمراض.

غالباً ما ينتقل علماء التخصصات الأخرى إلى الذكاء الصنعي تدريجياً لإيجاد الأدوات والمفردات التي تساعدهم على أتمتة وإضفاء الطابع المنهجي على المهام الفكرية التي كانوا يعملون عليها طوال حياتهم. وبشكلٍ مماثل، يختارُ العاملون في مجال الذكاء الصنعي تطبيق أساليبهم على أيٍّ من مجالات الفكر الإنساني، وهذا ما يدعونا إلى تصنيف الذكاء الصنعي على أنه مجالٌ شامل!

إذاً: ما هو الذكاء الصنعي؟

لا يبدو مصطلحُ الذكاء الصنعي واضحاً لكثير من الناس غير المختصين، وذلك يعود إلى عدة أسباب أولها ارتباطُ هذا المفهوم بالأفلام، مما يجعله يبدو كخيالٍ علمي ليس إلا. كما أن الذكاء الصنعي موضوعٌ واسعٌ جداً ومتشعّب، وهذا يجعل الناسَ غيرَ قادرين على تحديد ما يندرجُ تحت مفهوم الذكاء الصنعي فعلاً. على سبيل المثال تطبيق «سيري» الخاص بأجهزة آبل، المعروف على أنه المساعدُ الشخصي الذكي، هو أحد تطبيقات الذكاء الصنعي، لكن البعض قد لا يدرك أن الأمرين مرتبطان، وهذا يقود إلى نتيجة واضحة وهي أننا كأشخاصٍ عاديين نتعامل مع تطبيقات الذكاء الصنعي بشكل يومي دون أن ندركَ ذلك. أحيانا يتصور البعض أن الذكاءُ الصنعي مرتبط حصراً بصناعة الروبوتات مثلاً، في حين أن مفهوم الذكاء الصنعي هنا يكمنُ في البرمجيات داخل هذا الرجل الآلي، وما الرجل الآلي إلا الوسيلة المُساعدة لتطبيق هذا المفهوم على أرض الواقع. وقد تنبأَ العالِمُ «جون ماكثري»- وهو الذي قام بصياغة مصطلح الذكاء الصنعي في عام 1956- بظاهرة استخدام الذكاء الصنعي تحت مسمياتٍ أخرى حيث قال: “بمجرد أن ينجح الأمر، لن يقومَ أحدٌ بتسميته ذكاء صنعي”.

لذلك من المهم التعرف إلى بعض التطبيقات التي نستخدمها دائماً دون إدراك لكونها إحدى تطبيقات الذكاء الصنعي. من أهم هذه الأمثلة تطبيق "Google Now"، وهو أحد البرمجيات التي تُسمى بـ«برمجيات الوكيل الذكي» وذلك لأنها تقومُ بمهامٍ وخدماتٍ بناءً على مدخلات المستخدم مع إمكانية الوصول إلى الكثير من مصادر الإنترنت لتقديم معلوماتٍ أكثر ارتباطاً برغبة المستخدم. من هذه الخدمات ترتيب المعلومات بشكل أوتوماتيكيّ وتنظيمها على شكل بطاقات تظهر للمستخدم عندما يحتاج إليها وتقديم المقترحات بناءً على اهتمام المستخدم دون أن يبحث عنها.

كمثالٍ آخر، تطبيق "NetFlix" المصمَّم لتقديم اقتراحاتٍ لأغانٍ وأفلام بناء على مشاهدات واختيارات المستخدم السابقة. وأضافت الشركة لاحقاً تقنيات «التعلم العميق»، وهو أحد مناهج الذكاء الصنعي، كتحسينٍ للاقتراحات التي يقدمها التطبيق.

عندما يتعلق الأمر بالمهام البسيطة الروتينية، تكون الآلات قادرة على أداء مثل هذه المهام بكفاءة وموثوقية، أما عند مواجهة المشاكل المعقدة، تواجه الآلات، على عكس البشر، مشاكلَ في فهم حالات معيّنة والتكيف مع حالات جديدة وهنا تكمنُ إحدى مهام الذكاء الصنعي في جعل الآلات قادرة على التعامل مع المشاكل المعقدة. ومن هنا يمكننا استنتاج نقاط اختلاف الحوسبة الذكية عن التقليدية في أنها لا تعتمد على التصميم المسبق لخوارزميات الحل، أي أن المبرمجين لا يقومون بكتابة خطوات الحل للبرنامج، وإنما تعتمدُ على المعرفة التي نزوّدُ بها البرنامج، وتطبيق المنطق والاستدلال على هذه المعرفة للوصول إلى مطابقة للأنماط وبذلك يكون هذا النظام الذكي قادرٌ على حلّ مسائل ليس بمقدور البشر أن يقوموا بحلِّها. في حين أن أنظمة الحوسبة التقليدية تخزّن التعليمات التي يقوم المبومجون بكتابتها والتي تحتاج إليها لحل المشكلة في الذاكرة لتقوم بتنفيذها بطريقة تسلسلية وهذا يحدُّ من المسائل التي تكون هذه الأنظمة قادرة على حلها لأنها ستقتصرُ على ما يمكننا نحن البشر حلّه بأنفسنا.

من هنا، يمكنُ تعريف الذكاء الصنعي على أنه فرع من العلوم يتناول كيفية مساعدة الآلات على إيجاد حلول للمشاكل المعقدة (بأن تكونَ قادرة على المحاكمة والاستنتاج والتواصل والتصرف) بأسلوب شبيه بالأسلوب البشري وذلك من خلال «استعارة» الخصائص البشرية وتطبيقها على الآلات من خلال خوارزميات.

يرتبط الذكاء الصنعي بعلوم الكومبيوتر بشكل أساسي والعديد من العلوم الأخرى مثل الرياضيات وعلم النفس والإدراك والأحياء والفلسفة، وبجمع هذه العلوم جميعاً تأتي القدرة على خلق كائنٍ اصطناعي ذكي.

عندما تقرأ عن الذكاء الصنعي، ستجدُ الكثير من التعاريف الأخرى من علماء متخصصين في هذا المجال وفلاسفة مثل البروفيسور “John Haugeland" الذي عرّف الذكاء الصنعي منذ عام 1985 كالآتي: “المحاولة الجديدة والمثيرة للاهتمام لجعل أجهزة الكومبيوتر تفكِّر، أي أن تكونَ أجهزة لها عقول، بالمعنى الحرفي والكامل”، وعرّفه عالم الكومبيوتر والمخترع الأمريكي “Ray Kurzweil" في عام 1990 على أنه : “ فن خلق آلات لها القدرة على تأدية وظائف تتطلبُ ذكاءً من البشر”.

على مدى العقود الخمسة الماضية، كانت أبحاث الذكاء الصنعي تركز على وضع وتحسين العديد من الحلول لمشاكل محدّدة، وهذا يفسر لماذا يُقسّم مجال الذكاء الصنعي إلى عدة فروع ابتداءً بالتعرف على الأنماط إلى الحياة الاصطناعية، وبما في ذلك الحساب التطوّري والتخطيط. وبناءً على ذلك، تتعدّدت تطبيقات الذكاء الصنعي بشكل كبير حتى أننا يمكنُ أن نقول أنه مجال شامل فعلاً لأن العاملين فيه قادرون على تطبيق طُرُقهم على أيّ من مجالات اجتهاد الفكر الانساني.

يشمل الذكاء الصنعي المجال العسكري من خلال التحكم الذاتي وتحديد الأهداف، وأنظمة الهاتف التي يمكنها فهم حديث المتكلِّم، ومجال الترفيه في ألعاب الكومبيوتر والروبوتات. كما أنه يمكّنُ المؤسسات الكبيرة، التي تتعاملُ مع كميات هائلة من المعلومات مثل المستشفيات والبنوك وشركات التأمين، من أن تستفيدَ من تطبيقات الذكاء الصنعي من خلال التنبؤ بسلوك العملاء واكتشاف الميول. بالإضافة إلى تطوير أنظمة لحل مسائل محدّدة مثل لعب الشطرنج، وإثبات النظريات الرياضية، وكتابة الشعر، وتشخيص الأمراض. ولكن في معظم الحالات لا يُنتجُ الذكاء الصنعي أنظمةً قائمةً بذاتها، بل يُضيفُ المعرفة والمنطق إلى التطبيقات وقواعد البيانات والبيئات الموجودة حالياً لجعلها أسهل استخداماً وأذكى وأكثر حساسية لسلوك المستخدِم والتغيرات الحاصلة في البيئة.

هل أصبح مفهوم الذكاء الصنعي مألوفًا لديك؟ وهل أصبح بمقدورك تمييز التطبيقات التي تندرج تحت هذا المفهوم؟

في مقالنا قادم، سنخوض في المزيد من التفاصيل المتعلقة بهذا المجال، فانتظرونا!

----------------------

حاشية المحتوى:

* التفكير المجرد: المرحلة النهائية والأكثر تعقيداً لتمو التفكير المعرفي عند الإنسان، ويتميز بالتكيف والمرونة واستخدام المفاهيم والتعميمات.

* المنطق التداولي: التفكير الحذِر والمناقشات الطويلة قبل اتخاذ القرارات.

----------------------

المصادر:

هنا

هنا

هنا

هنا

هنا

هنا