الفيزياء والفلك > علم الفلك

لماذا تنطلق الرحلات الفضائية من أماكن معينة على الكرة الأرضية

كيف يحدّد المهندسونَ الفلكيّونَ توقيتَ إقلاعِ مركبةٍ فضائيّةٍ ؟

لابدَّ في البدايةِ أن نعلمَ أنّه ما من أجسامٍ ساكنةٍ في الفضاء، فكلُّ شيءٍ يتحرك بطريقةٍ أو بأخرى. تدورُ بعض الأجسامِ حولَ أجسامٍ أخرى، و يتحرَّكُ بعضها مقترباً أو مبتعداً عن نقطةٍ ما متحركةٍ أيضاً. إذاً كيفَ يوجِّه مهندسو الفلكِ مركبةً فضائيّةً حتى تهبطَ على سطحِ المِرّيخ، أو لتلتقيَ بمذنبٍ ما أو كويكبٍ محددٍ في وقتٍ محددٍ و من مكانٍ محدّد ؟

تتحرّكُ الأرضُ في مداراتٍ محددةٍ حولَ الشّمسِ، ويتحركُ الهدفُ الذي تصبو إليهِ المركبةُ الفضائيّةُ في الفضاءِ أيضاً، لكنّ سطحَ الكرةِ الأرضيّةِ، والّذي يشكّل منصّةَ الإطلاقِ يتحرك أيضاً بمعدل 1610 كيلومتر في الساعة ! لذا إن كنتَ تعتقدُ أنّ توجيه مركبةٍ فضائيةٍ إلى هدفٍ محددٍ في الفضاءِ أمرٌ سهلٌ فجرّب التالي:

1. اجمع أيّ نوعٍ من الكراتِ الصّغيرةِ لديك (كرات تينس، كرات الغولف، كرات محشوة... الخ). أو اصنع كراتكِ الخاصّةِ من الورق.

2. ضع الكراتَ في حقيبةٍ أو كيسٍ لتصبحَ سهلةَ الحمل.

3. اعثُر على وعاءٍ فارغٍ لاحتواءِ الكرات ( سلة الغسيل مثلاً).

4. خذ حقيبةَ الكراتِ و اذهب إلى أقربِ ملعبٍ للأطفالِ يحتوي على لعبة الدوّامة . ليست دوّامَة الخيلِ إنّما الدوّامة الأخرى التي تدفعُها بقدمِك حتى تدور .

5. ضع سلّةَ الغسيلِ الّتي أحضرتها معكَ على بعدِ 3- 4 أمتار عن الدوّامة. اصعد على الدّوامة مع حقيبة الكرات.

6. حاول أن تلقيَ ببعضِ الكراتِ في سلّة الغسيل، دونَ أن تحرّكَ الدوّامة.

7. أعد جمعَ الكرات. اصعد إلى الدوامة وادفعها بقدمِك لتدور.

8. حاول الآن أن تقذِف بالكراتِ إلى داخلِ السلّة أثناء دورانِ الدوّامة.

9. زد من سرعة الدوّامةِ عن طريقِ دفعِ الأرضِ بقدمكَ لتدويرِ الدوّامة. حاول الآن قذفَ الكراتِ مجدداً باتّجاهِ الهدفِ مستفيداً من دوران الدوّامة لقذفِ الكراتِ مسافاتٍ أبعد.

إنّ إضافةَ عنصرِ الحركةِ للعمليّةِ يجعلُها أصعب، أليس كذلك؟ تخيّل كيفَ سيكونُ الأمرُ لو كانت السلّةُ في الطّرفِ الآخرِ من الملعب؟ لن يكونَ الأمرُ سهلاً مهما كان نوعُ الكراتِ الّتي لديك. يتوجبُ على المهندسينَ الفلكيينَ أخذَ العديدِ من الأمورِ في الحسبانِ لتحديدِ التوقيتِ المناسبِ للإقلاع. أحد أهمّ هذه الأمورِ، الحصولُ على أكبرِ قوةِ دفعٍ للإقلاعِ من منصّةِ الإقلاعِ الكبيرةِ الّتي تدعى كوكب الأرض!

تدورُ الأرضُ حول الشمس بسرعة 107،000كيلومتر في الساعة ! فإذا تمكّنت مركبةٌ فضائيّةٌ ما من التوجّه في نفس اتجاه حركةِ الكرةِ الأرضيّةِ حولَ الشّمسِ فستحصلُ على قوةٍ دفعٍ كبيرةٍ للتملّصِ من الجاذبيّةِ الأرضيّة. لذلك لنحدّدَ وجهتنا، علينا أن نحدّدَ أفضلَ توقيتٍ في السّنة لإطلاقِ المركبةِ الفضائيّةِ تبعاً لموقعِ الكرةِ الأرضيةِ في مدارها حولَ الشّمسِ، ومكان الوجهةِ التي يصبو المكّوكُ إليها.

أما بالنّسبةِ لتحديدِ مكانِ الإقلاعِ على سطحِ الأرض، فنحنُ نعلم أنّ الكرة الأرضيّة تدورُ حولَ محورها باتّجاهِ الشرقِ دورّةً كاملةً كلّ يوم. تدورُ الأرضُ بأقصى سرعةٍ لها عند خطّ الاستواء، حيث تبلغ سرعتها عند هذا الخط 1675 كيلومترٍ في الساعة ! إن استطعنا إطلاقَ مركبةٍ فضائيّةٍ باتّجاهِ الشّرقِ من هذه المنطقةِ تحديداً (خطّ الاستواء) فستحصل المركبةُ على قوةِ دفعٍ تمكّنها من الانفلاتِ من حقلِ الجاذبيّةِ الأرضيةِ بفاعليةٍ أكبرَ و توفيرِ الوقتِ والوقودِ للوصولِ إلى الوجهةِ المطلوبة

سنستعرضُ الآن إجاباتٍ على أسئلتنا التي طرحناها في المقدّمةِ من خلالِ مقابلةٍ أجرتها مجلةُ Scientific American عام 2009 مع كبيرِ المشرفينَ على المتحفِ الوطنيّ السِّمِثسوني الجوي و الفلكي، المؤرّخُ الفلكيُّ روجر لونيَس.

لماذا اختارت الولايات المتحدة مكاناً مثل مركز كينيدي للفضاء ( جزيرة ميريت في ولاية فلوريدا) حيث تشكّل التقلبات الجويّة عقبة في طريق الإقلاع، حيث يتأخر غالباً إطلاق المكوك الفضائي بسبب الغيوم و الأمطار؟

حسناً، لا يخلو مكانٌ في البلادِ من التقلّباتِ الجويّة. إن ذهبنا لمنتصِف البلادِ فسنحصل على الزوابعِ، وإن ذهبنا إلى الجنوبِ سنجدُ الأعاصير. لا يخلو الأمر من التقلبات الجويّة.

لقد اختيرت فلوريدا لأسبابٍ عدّة. أحدُ أهمِّ هذهِ الأسبابِ قربُها من خطّ الاستواء. كذلكَ لأنّها تُطلُّ على المحيطِ الأطلسيِّ حيثُ لا يتأذّى أحدٌ في حالِ حصولِ أيّ حادثٍ أو انفجارٍ خلالَ إطلاقِ المكّوكِ وأثناءَ عبورهِ الغلاف الجوي. لذلك تمّ اختيارُ منصّةِ الإطلاقِ في مكانٍ منعزلٍ بعيدٍ عن المناطقِ المأهولة.

قلت أنّ الإقلاع يجب أن يتم من الساحل الشرقي ليصعد المكوك فوق المحيط، لماذا يتوجب الإقلاع باتجاه الشرق عوضاً عن الغرب؟

للاستفادةِ من تسارعِ دورانِ الأرضِ حولَ نفسها. الأمرُ الّذي يوفّرُ الطّاقةَ المبذولة للتملّص من الجاذبيّة الأرضيّة والانطلاقِ نحوَ الفضاء.

هذه احدى ميزات الإقلاع من مكان قريب من خط الاستواء. أليس كذلك؟

تماماً. إنّ أفضلَ مكانٍ للإقلاعِ على الإطلاق هو المعبرُ التّابعُ لوكالةِ الفضاءِ الأوروبيّةِ في غينيا الفرنسيّة، والتي تقعُ على بعدِ خمسِ درجاتٍ فقط شمالَ خطِّ الاستواء.

إذن لماذا وقع اختيار الولايات المتحدة على جزيرة ميريت و لم تختر هاواي او بورتوريكو؟ أليستا أقرب لخط الاستواء من جزيرة ميريت؟

أعتقدُ أنّ ناسا اعتبرتهما مكانينِ بعيدين جدّاً.

ذكرتَ أنّ موقع الإقلاع التابع لروسيا يقع في كازخستان. كيف استطاعت المركبات الفضائيّة الإقلاع من مكان بعيد عن خط الاستواء كهذا الموقع؟

إنّ الصواريخَ الروسيّةَ هي الأكبرُ حجماً، لذلكَ تحتاجُ إلى قوةِ دفعٍ أكبر لتندفعَ في المسارِ الصّحيح. يفترضُ أن يكونَ الموقعُ أقربَ إلى خطّ الاستواء. لكنّ الاتحادَ السوفيتيّ أرادَ أن يكونَ موقعُ الإطلاقِ في منطقةٍ تقعُ تحت سيطرته. أرادوا أن يكونَ الموقعُ معزولاً و بعيداً عن المناطقِ المأهولةِ، ليس بالضرورةِ تجنّباً للحوادث، وإنما لإبقاءِ الأمرِ سريّاً قدرَ الإمكان. وقد استطاعوا الحفاظَ على سريّةِ الموقعِ حتّى اكتشفت الولاياتُ المتحدةُ الأمرَ عن طريقِ الأقمارِ الصناعيّة.

لقد أرادَ الاتحادُ السوفيتيّ موقعاً أقربَ لخط الاستواءِ بالطبع، لكنّهم لم يتمكنّوا من ذلك لإنهم لم يمتلكوا أو يسيطروا على أيّ أرضٍ بالقربِ منه. لذلك نُصِبت المحطّةُ الفضائيّةُ في مكانٍ يسهلُ على روسيا الوصول إليهِ بسهولةٍ، لكنّه كان قراراً سيئاً في ما يخصُّ الإقلاع باتّجاه القمر.

لماذا تشكّل المحطة الفضائيّة موقعاً سيئاَ للإقلاع باتجاه القمر؟

لأن المدار الّذي تقعُ عليهِ هذه المحطّةُ يميلُ ليشكّلَ زاويةً مع خطّ الاستواء. وهذا يعني أنّ على المركبةِ الفضائيّةِ قطعَ مسافةٍ أكبرَ لعبورِ الغلافِ الجويّ. لذلك ينبغي على المدارِ الّذي تقع المحطةُ فيه أن يكون قريباً من خطّ الاستواء مما يوفّر المسافةَ المقطوعةَ وبالتالي يوفّر الطّاقةَ المبذولة.

هل تخطط ناسا حالياً لاستبدالِ موقع الإقلاعِ في جزيرة ميريت بموقعٍ آخر؟

لا أعتقدُ أنّ ذلكَ سيحصلُ في المستقبلِ القريبِ، لأنّ نقلَ البنيةِ التحتيّةِ لمنصّةِ الإقلاعِ سيكلّفُ الكثيرَ من المالِ و الوقت. لهذا لم يُستبدَل هذا الموقعُ حتى الآن.

المصادر:

هنا

هنا