الفنون البصرية > فن وتراث

هامبورغ، بوابة ألمانيا التجارية

يمكنكم الاستماع للمقال عوضاً عن القراءة

في الخامس من تموز الماضي، أدرج اليونسكو مدينة التخزين وحيُّ المكاتب ومبنى شيلي في هامبورغ على لائحة التراث العالمي، ويعد هذا الإدراج اعترافاً من اليونسكو بالمكانة العالمية المرموقة لهذه المدينة.

يرمز هذا الاختيار إلى ثقافة الانفتاح على العالم التي شكلت طابع هذه المدينة من قديم الأزل. كما يمثل ميناء هامبورغ روح التراث التجاري الألماني، فقد كان دائماً بوابة ألمانيا نحو العالم. تعد مخازن المدينة وبيوتها فريدة من نوعها على مستوى العالم وسطرت في تاريخ الهندسة المعمارية فصولاً لا تُمحى.

مدينة التخزين وحيُّ مباني المكاتب منطقتان حضريتان مركزيتان في مدينة هامبورغ الألمانية المعروفة بمينائها، أحد أكبر المجمعات في العالم التي تضم مستودعاتٍ تاريخيةٍ موحدةٍ مخصصةٍ لأنشطة الموانئ (300،000 م2). وتشمل المنطقة 15 مستودعاً كبيراً جداً وستة أبنيةٍ ملحقةٍ شُيِّدت على شبكةٍ من القنوات القصيرة.

مدينة التخزين Speicherstadt:

مدينة التخزين هي منطقة جمركية حرة، وهي عبارة عن 15 مبنى كبيراً تستخدم كمستودعاتٍ للتخزين، وهي بطوبها الأحمر الداكن شهادةٌ على الهندسة المعمارية التاريخية حول النهر في المنطقة.

تتميز مدينة التخزين بوجود عدد كبير من أبنية التخزين والخدمات، وبإنشاءٍ وظيفي معماري وعمراني خاص، وبالطرق المعبدة والممرات المائية والجسور والسكك الحديدية. بنيت المدينة أساساً على ثلاثة جزرٍ صغيرة في نهر الإلبه بين عامي 1885 و1927 على ثلاثة مراحل تحت إشراف مهندس التخطيط فرانز أندرياس ماير، كأكبر وأحدث مركزٍ للإمداد والتموين في عصرها. اشتملت المدينة على مساحات تخزينٍ واسعة جُهزت تبعاً للمعايير الدولية بالمعدات الكهربائية والميكانيكية الحديثة، كالضوء الكهربائي وروافع الدفع الهيدروليكي، وتم استخدام محطة توليدٍ خاصةٍ للكهرباء وضغط الماء. وفرت المخازن بفضل طريقة إنشائها مناخاً داخلياً مستقراً، ما سمح بتخزين البضائع الحساسة دون الحاجة لتدفئةٍ أو تبريدٍ إضافي.

السمة المميزة لهذه المدينة هي أسلوب البناء الهيكلي، الذي سيطرت عليه العناصر الحديدية المسبقة الصنع فضلاً عن الخشب والدعامات الحديدية المغلفة بالخرسانة، وهذا ما مكّن من تخفيف الجدران الخارجية بشكلٍ كبير، والتي اُستفيد منها كعوازلَ حراريةٍ بشكل أساسي.

إن إنشاء الواجهات من وحدات متكررة (الموديول)، واعتماد القرميد كمادة إكساءٍ موحدةٍ لها وفقاً لمدرسة هانوفر للعمارة، قد ميّز الهندسة المعمارية لمدينة التخزين. فتجمعاتها لم تكن رصينة ومملة، بل غنيةً بالزينة والعناصر الفنية المتميزة بأشكالها المعمارية ذات الطراز القوطي الحديث، وبتأثيرها العمراني القوي، الذي يزيد من أهميته موقعها المهيمن على مجموعة جزرٍ قرب وسط المدينة.

رغم آثار الحرب العالمية الثانية، استطاعت مدينة التخزين أن تحافظ على الطراز الموحد الذي طالما ميزها، حيث تم استرداده بعد انتهاء الحرب عبر إعادة إعمارٍ جزئيةٍ راعت طابع المدينة وحافظت عليه (بين عامي 1949 و1967).

تُمثل مدينة التخزين حتى يومنا هذا أكبر تجمعٍ لمستودعات التخزين المترابطة والموحدة في العالم، فهي لا تبرز فقط من خلال قوة وحدتها العمرانية والمعمارية التي نجمت عن تصميمٍ متجانسٍ باستخدام واجهات الطوب الأحمر الداكن، لكن أيضاً من خلال ميزتها الشكلية التي أكدت على الطابع الاستثنائي لوظيفة البناء. هذه الوظيفة التي تجعل من مدينة التخزين رمزاً لميناء هامبورغ وتمنحها بالمقارنة مع تجمعات التخزين للموانئ الأخرى في العالم مكانةً خاصةً على الصعيدين الوطني والعالمي.

حي مباني المكاتب "Kontorhausviertel":

تزيد مساحة هذا الحي عن خمسة هكتارات، ويضم ستة مجمعات كبيرة جداً للمكاتب، بُنيت بين عامَي 1920 و1940 لاستضافة الشركات التي تضطلع بالأنشطة ذات الصلة بميناء هامبورغ. ويُعتبر هذا الموقع خيرَ دليلٍ على نتائج التطور السريع الذي شهدته التجارة العالمية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.

يحاذي الحي قناة الجمارك من الجهة الشمالية، ويتميز بتجانسٍ فريدٍ بأبنيته ذات الطراز الموحد، وواجهاته القرميدية ذات الأشكال التعبيرية والواقعية. فهو يظهر تراكمَ الخبرات في تصميم مباني المكاتب بصفته أول حيٍ متكاملٍ للمكاتب في القارة الأوروبية.

إن المباني الرئيسية في هذا الحي هي: مبنى شيلي "Chilehaus"، وميسبيرغهوف "Meßberghof"، وشبرينكنهوف "Sprinkenhof"، ومولنهوف "Mohlenhof".

ركز المهندسون على استخدام المساقط العملية في التصميمات فتجنبوا الجدران الداخلية الحمّالة قدر الإمكان، وأنشؤوا مباني المكاتب باتباع الأسلوب الهيكلي في البناء. تميزت تقاليد بناء المكاتب في هامبورغ بالتطور الحديث باستخدام المصاعد من جهة، وبالمعايير والمواصفات الرفيعة المتبعة عند تصميم المباني من جهة أخرى. ولا يتضح ذلك في الأعمال التزيينية للواجهات القرميدية الباذخة بتفاصيلها المنمقة فقط، بل أيضاً بالأعمال والعناصر النموذجية في المداخل وبيوت الأدراج التي تُظهر أحياناً بذخاً واضحاً في التصميم.

إذن تتصف تلك المباني بجودةٍ عاليةٍ في التصميمِ والإبداعِ لم يكن لها مثيلٌ آنذاك إلا في الولايات المتحدة الأمريكية. ورغم أن عمارة المكاتبِ تأثرت آنذاك بطراز الفنونِ الجميلةِ الفرنسي، إلا أن مباني هامبورغ برزت بواجهاتٍ قرميديةٍ عصريةٍ بأشكالٍ تعبيريةٍ بلغت براعةً تصميميةً وحرفيةً متفوقةً على عصرها، لا سيّما في مبنى شيلي وشبرينكنهوف. وكان مبنى ميسبيرغهوف -وهو خالٍ إلى حد كبير من الزخارف والتقسيمات- أحد أول المباني التي مهدت الطريق للواقعية الجديدة على المستوى الدولي. أما مولنهوف ذو الواجهات المسطحة البسيطة نسبياً فيمكن نسبته إلى الواقعية الجديدة فعلاً. وبذلك تُعدّ الأبنية المركزية لحي المكاتب أحد أهم إنجازات طراز بناء المكاتب في العشرينات من القرن الماضي، وتعتبر كذلك أعمالاً مهماةً لمعماريين مشاهير ذوي مكاناتٍ فنيةٍ عاليةٍ.

مبنى شيلي "Chilehaus":

بناه فريتس هوغر بين عامي 1922 و1924، ويُعتبر أحد أيقونات العمارة التعبيرية. ويَدين بذلك للتفاصيل الرائعة لواجهاته القرميدية، وشكله البارز الناتج عن بنائه فوق شارع فيشيرتفيته، وواجهته المنحنية على شكل حرف S عند ساحة ميسبيرغ، ولا سيّما قمته في الجهة الشرقية التي تذكر الناظر بمقدمة السفينة.

استغل هوغر إمكانيات البناء بالخرسانة المسلحة بالإضافة إلى مساحات البناء التقليدية، فأنتج كتلة بناءٍ حديثةً ومحددة المعالم. وببراعته الحرفيةِ والتصميميةِ المتميزةِ أبدع هندسةً معماريةً عصريةً خاصةً بمباني المكاتب لم يكن لها مثيلٌ عالمياً باستخدامه مادة القرميد في الإكساء. حيث استفاد من تأثير انعكاس القرميد المشوي غير المنتظم، ومن توزع الأعمدة المتناغم في الفراغ الداخلي، من أجل الحصول على تصميمٍ فنيٍ للواجهات.

وفي الفراغ الداخلي سمح نمط الإنشاء بتوفير مسقطٍ أرضيٍ مرنٍ ضروريٍ للمبنى، بشكلٍ حديثٍ يسمح باستئجار المكاتب ويتكيف مع مختلف احتياجات المُستأجرين. في حين صنع اصطفاف الأعمدة من الجهة المائلة جداراً مصمتاً يبدو وكأنه خالٍ من النوافذ، مما يؤكد على فخامة وعظمة المبنى.

أخيراً فبالإضافة إلى تصميم الجدار الفني، أدخل النحات ريتشارد كول لواجهات البناء زخارفَ خزفيةً، ولبهو الدخول وبيوت الأدراجِ تصاميمَ وأعمالاً من التراكوتا (أو: الطين النضيج، ويُستعمل لصنع الأواني والتماثيل الصغيرة).

المصدر:

هنا