الطبيعة والعلوم البيئية > عجائب الأحياء

وحيداً في وجه التحديات... وما أكثرها!

من الطبيعيّ أن يتأثرَ وجودُ النحل في بيئة حيوية ما بوجودِ ونشاط المكوّنات الأخرى للبيئة ومن بينِها الإنسان. لكنّ الإنسانَ في كثير من الحالات يُسقِط نفسَه سهواً أو عمداً من معادلةِ التّوازن الحيوي، لينتهي متّهَماً بالتسبّب بأضرارٍ كبيرة تتجاوزُ تلك التي تسببها الأعداءُ الطبيعية (غير البشرية).

صدر عن المنظّمة الأمريكية لحمايةِ البيئةِ تقريرٌ العام 2013 تضمّن أسبابَ انخفاض أعدادِ النحل، وعزاهُ إلى مجموعةٍ واسعة من العوامل على رأسها المبيداتُ الحشرية. لم يعتبرِ التقريرُ المبيداتِ ذاتَ التأثير الأكبر وحسْب، بل ذاتَ أثرٍ تراكميٍ أيضاً. ومع أنّ الأبحاثَ الحالية لا تشير بشكل قطعي إلى أن المبيدات هي إحدى العواملِ الرئيسة المرتبطة بانخفاض النحل، فمن الواضح أن مستعمراتِ النحل تتضرّر بشدة جرّاء التعرّض لجرعات عالية من المبيدات عند استخدامها على المحاصيل خصوصاً الجذابة للنحل منها.

أظهرتِ الأبحاث العلميةُ الحديثة آثاراً طويلة الأجل على الملقِّحات ومن بينِها النحل، ناجمةً عن التعرّض لمستويات شبه قاتلة من المبيد؛ والمستوى شبهُ القاتل هو الكمية الأخفض من تلك المسببةِ للموت الفوري. تضمُّ تلك الآثار تغييراتٍ في سلوك النحل، وفقداناً للنحلات الكشافة، الأمرُ الذي ينعكس سلباً على الملكة والحضنة.

تعتبر المبيدات الشبيهةُ بالنيكوتين Neonicotinoids شائعةُ الاستخدام، ذاتَ خطر كبير على النحل، ولو أنّ خطرها محدود على الثدييات والإنسان مقارنةً بباقي المبيدات. وبما أن سُمّية هذا النوع من المبيدات موجّهةٌ إلى الحشرات، فقد اعتُبر استخدامُها ذا أثر محدودٍ على البيئة ككل أيضاً مما ساعد على انتشارها، لكنّ النحل كان الضحية.

يتعرّض النحل إلى المبيدات المستخدمة على المحاصيل المجاورة لمستعمراته، كما يلجأ مربّو النحل لاستخدام المبيدات على النحل نفسه لمحاربة العث والبكتريا والفطريات، ويوضّح الشكل الطرائقَ التي يكون النحل فيها عرضةً للمواد السامة عند تطبيقها كعلاج للتربة أو كرذاذ.

الشكل : طرق تعرض النحل للمبيدات – (المصدر:

source 2)

يؤدي التعرض لجرعات عالية من المبيدات بالارتشاف مع الغذاء أو المياه إلى تعرّض النحلة للغثيان فالموت وبشكل أكثر تفصيلاً؛ يعاني النحل مما يلي:

• فقدانِ القدرة على التواصل والتوجيه والملاحة خارج الخلية

• تغّيرِ السلوك الرعوي (جمع الغذاء) وتغيرِ النشاط الحركي

• فقدانِ الذاكرة على المدَيين القصيرِ والطويل

• ضَعفِ سلوك التعلم والكشف الحسي

• ضَعفِ النظام المناعي

• زيادةِ خطورة التعرض للآفات والأمراض

• انخفاضِ الخصوبة وضعفٍ في معدل نموِّ المستعمرة

ورَغم كلّ ما سبق، بقي من غير الواضح فيما إذا كان الضررُ الناتجُ عن المبيداتِ كافياً بحدّ ذاتِه ليكون سبباً رئيسياً في انخفاض تعدادِ النحلِ وحدوثِ ظاهرة انهيارِ المستعمرة colony collapse disorder التي تهدد النحلَ في مناطقَ عديدةٍ اليوم في العالم. لا يزال الجدلُ حولَ خطورة المبيدات الزراعية قائماً، لكن لا شكّ أن شبيهاتِ النيكوتين من بين المبيدات مثل الكلوثيانيدين، والإيميداكلوبريد، والثيامثوكسام تعتبرُ ضارةً بالنحل لدرجة أنها حظّرت مؤقتاً من الاتحاد الأوروبي، كما صرحت وكالة حماية البيئة في الولايات المتحدة بوضعِها شروطاً صارمة عند المصادقة على هذه المبيدات.

توجد عدة تجاربٍ حاولت معرفةَ أثرِ المبيدات على حياة النحل، منها تعريضُ النحل لنوعَي رحيقٍ أحدُها مخلوط بالمبيد والثاني نقي، حيث لوحظ للأسف أن النحل يختار الملوثَ بدلاً من النقي. لم يستطع النحل في هذه التجربة تذوّق المبيد، وقد يرجع تفضيلُه للملوث إلى كون أشباه النيكوتين تنشّطُ بعضَ المستقبلات المرتبطة بالذاكرة والتعلم في أدمغته. في تجربةٍ أخرى متصلة وُجد أن النحلِ لم يستطع التمييزَ بين الحقل المرشوش وغير المرشوش بالمبيد فكانت نسبةُ انتشارِه واحدةً في الحقلين.

لمبيدات الأعشاب دوناً عما سواها تأثيرٌ إضافي غيرُ مباشرٍ يتمثّلُ بتقليص تَعدادِ النباتات المزهرة العشبية أحدِ مصادر قوت النحل. يمكن الحدُّ من أثر المبيدات بوضعِ مستعمراتِ النحل بعيدةً عن أماكن الرشّ والقيام برش المبيدات مساءً أو في الصباح الباكر قبل انتشار النحل، بالإضافة إلى تلافي الرش في أوقات هبوب الرياح والحرارة الشديدة، كما أنّ التطبيقَ الأرضي يبقى أقلّ ضرراً من الرش.

الأعداء الطبيعية:

للأسف فليست المبيداتُ وحدَها ما يثقلُ كاهلَ النحل، فانخفاضُ المراعي يضعف المستعمراتِ مما يجعلها عرضةً للأمراض. للنحل كما لغيره من الكائنات أعداءٌ حيوية ومسبباتٌ مرضيّةٌ تتطفّلُ عليه لعل أهمَّها العث وما ينقلُه من فيروسات. كان عث النحل المسمى بالفاروا المدمِّر Varroa destructor مقتصراً على نحل العسل الشرقي، واتّسع انتشارُه خلال النصف الأول من القرن الماضي ليصبح اليوم تهديداً كبيراً لجميع مربّي النحل. يتطفلُ هذا العث خارجياً على جسم النحل حيث يستقرّ بين الحلقات البطنية لذكور النحل (غالباً إضافةً للعاملات) أو على يرقاته.

يستخدم هذا العثّ أجزاءَ فمه لامتصاص هيمولمف hemolymph النحلةِ الذي يقابل الدمَ في أجسادنا. بعد نضج مبايض الفاروا تهبط الأنثى إلى الحضنة قبل أن يتمَّ إغلاقُ الأعينِ بالشمع. تمتصّ أنثى الفاروا دمَ يرقات النحل و تفضّل الذكور منها لكونِ هرمون الانسلاخ أغزرَ فيها من الإناث. تضع الأنثى البيضَ ويفقس عن ذكور وإناث تتزاوجُ لتخرج النحلة ذكراً أو عاملةً مصابةً وحاملة لأفراد الفاروا الجديدة التي تتطفل على النحل البالغ حتى تنضُج مبايضها لتعيدَ الكَرّة.

يفضّل الفاروا حرارةً أقلّ بقليل من حرارة الخلية لذلك يغزو الأعينَ السداسية المحيطيّةَ بشكلٍ أساسي، وباستثناء انتقالِه على أجسادِ النحل فإنه يُمضي دورةَ حياتِه في ظلام قفير النحل.

تمثل يرقاتُ النحل المرحلةَ الأكثرَ حساسيةً للفاروا، وتقلّل خسارةُ اللّمف من وزن النحل المنبثق حتى 7%، بينما يخسر ذكر النحل المصاب حتى 19% من وزنه فتنخفض القدرةُ على الطيران وينخفضُ العمرُ الكلي للشغالات؛ وبالنتيجة يتدهور إنتاج مستعمرة النحل. يضاف إلى ذلك الضرر كلِّه نقلُ الفاروا لأمراضٍ فيروسية تصيب النحلَ أيضاً.

إلى جانب وجودِ علاجاتٍ كيميائية مختلفةٍ للفاروا، تجري محاولاتٌ عديدة لانتخاب سلالاتِ نحلٍ أكثرَ مقاومةً والتي تتميز بانخفاض تَعداد ذكورِها –العائل المفضَّل- أو بضعفِ يرقاتها بحيث لا تقوى اليرقةُ المصابة على فتح العين السداسية القابعة فيها فتموت ومعها أفراد الفاروا الجديدة بدلاً من الخروج ونشر المرض. من الجدير بالذّكر أيضاً أن النحلَ يلجأ إذا ما شعر بوجود العث إلى تنظيفِ نفسِه وإبعادِ العث بالاهتزاز، كما يزيل الحضنةَ الميتة خارجاً كوسائلَ دفاعية.

تشكلُ الفيروساتُ أيضاً تهديداً لحياة النحل وتنتقل بواسطة الفاروا وغيرِه، حيث تجد طريقَها إلى جسم النحل بعد أن تخترقَه الأجزاءُ الفموية لناقل المرض وهذا ما يفسّر سرعةَ وشدةَ المعاناة التي تصيب الخلية بعد إصابتها بالفاروا. من الفيروسات؛ فيروس تشوّه الأجنحة DWV، فيروسُ تكيّسِ الحضنة SBV، فيروسُ الخليّة الملَكية السوداء BQCV، فيروسُ كشميرِ النحلKBV وغيرها الكثير.

يبقى أن نذكر أن مستعمراتِ النحل القويةَ والمحاطة بمراعٍ خَصبةً وفيرة مع مراعاة أسس الاعتناء بالنحل وتربيتِه تساعدُ كثيراً في تعزيز قدرة النحل على مواجهة الأمراض وتحمّل بقايا المبيدات.

لتبسيط الموضوع شاهد الفيديو التالي هنا

المصادر:

1- هنا

2- هنا

3- هنا

4- هنا

5- هنا

6- هنا