الطبيعة والعلوم البيئية > عجائب الأحياء

العسل؛ الغذاء الأغنى، الأشهى والمقاوم للفساد... كيف يصنع؟!

كيف يـُـصنع العسل أو بعبارة أدق؛ كيف يـُنتــِج النحل العسل؟!... سؤالٌ ربما تبادر لأذهانكم كثيراً وربما وقعتم في مغالطات وأنتم تبحثون أو تحاولون تخيل الإجابة.

توفــّـرَ السكر وانتشر بدءاً من القرن السادس عشر، وحتى ذلك الحين كان العسل وسيلة التحلية الأساسية. وقد قيل قديماً أن لا شيءَ في الطبيعة -باستثناء بعض ما يفعله الإنسان- يتمّ بكفاءة أكثرَ من إنتاج العسل. فداخلُ كل مستعمرة نحل، تتضافر الجهودُ لتسيرَ العملية على نحو سلس ومثالي. يحتاج النحل نوعين من الغذاء لإنتاج العسل؛ الأول هو الرحيق مادةُ العسل الأولية؛ وهو العصير السكري المتجمّعُ داخل الأزهار. أما الثاني فهو حبوبُ اللقاح الموجودةُ في مئبر الأزهار (الأعضاء المذكرة)، وكما للأزهار ألوان وروائح مختلفة فإن لها حباتِ طلع ورحيقاً مختلفاً.

لا تدخل حباتُ الطلع في تركيب العسل فعليا، وإنما تنحصر مهَمّتُها في تغذية النحل وحضنته لما تحويه من بروتينات ومغذّياتٍ ضرورية. ولنعرفَ كيف تتمّ صناعةُ العسل بالتفاصيل، ما علينا إلا أن "نمتطيَ" ظهرَ إحدى النحلات ونرافقَها في رحلتها وعملِها خطوة خطوة... فليكن!

يبدأ النحلُ السارح بالخروج من الخلية بعمرِ ثلاثةِ أسابيع، ويستلزمُ الأمرُ أن تعمل 300 نحلةٍ مدةَ 3 أسابيع متواصلة لإنتاج 450 غرامٍ من العسل، علماً أن المستعمرةَ تضمّ وسطياً 40 ألف نحلة، وعلى النحل أن يزور 100 إلى 1500 زهرة ليملأ معدةَ العسل الخاصةَ به.

حالما يحطّ على زهرة، يمتصّ النحلُ الرحيق بلسانِه المعروفِ بـ Glossa (لسان يشبه الأنبوبة الطويلة) ليخزّنه في معدةِ أو حَوصلةِ العسل الخاصة Honey stomach ثم ينقلَه إلى المستعمرة. إذا ما جاعت النحلة فما عليها إلا أن تفتحَ صماماً خاصاً في معدة العسل لينتقل جزء من الرحيق إلى أمعائها لتهضمه وتحوله إلى طاقة.

تحمل النحلة من الرحيق وحبوب اللقاح وزناً يقاربُ وزنَها، الأمرُ الذي تعجَز عنه أفضلُ الطائرات تصميماً وتقدّماً فهي لا تَقوى على حمل ما يفوقُ ربعَ وزنِها، لذلك كانت قدرة النحل على البقاء في الهواء بهذه الحمولة معجزةً تدعو للذهول.

تقوم النحلةُ بخلطِ الرحيقِ في المعدة الخاصة بأنزيماتٍ مفرَزةٍ من الغدة البلعومية السفلى، ويتلخصُ دورُ الأنزيماتِ التي يُضيفُها النحل في تحطيم السكرياتِ المعقدةِ إلى الغلوكوز والفركتوز.. تغيّر هذه الأنزيمات من التركيب الكيميائي للرحيق ومن درجةِ حموضته بحيث يصبح أصلحَ للتخزين الطويل، ويعد الإنفرتاز Invertaseأهمَّ هذه الأنزيمات.

عند امتلاء حَوصلتِها تعودُ النحلة إلى المستعمرة لتسلّم الرحيقَ إلى النحلات المنزلية (المقيمة في الخلية) اللاتي يكنّ بعمر 6 - 18 يوماً ليتابعن المَهمة بمعالجةِ العسل. يتم نقل الرحيق من النحلة السارحة إلى المقيمة من الفم إلى الفم، حيث تــُــقلَّل نسبةُ رطوبته أثناء ذلك بمعدل 20 - 70%، وهذه إحدى الخطوات الأساسية التي تجعل من الرحيق عسلاً.

ما يحصل فعلاً أثناء عملية النقل هذه هو تقيّؤ النحلة لما جمعته في فم نحلة أخرى، وبعبارة علمية أدق تتم عملية الارتجاع أو القلس Regurgitation وهي ذات العملية التي تقوم بها بعض الطيور والحيوانات لاسترجاع الغذاء الذي سبق وتحصّلت عليه عن طريق الفم لإطعام صغارها. لا داعي للاشمئزاز فليس الأمر كتقيؤ البشر، خصوصاً وقد بتنا نعرف أنه ارتجاعٌ من حوصلة مخصصةٍ لجمع العسل وليس من معدةٍ هاضمة، إضافةً إلى أن الرحيق يتعرّض في حوصلة الجمع إلى إضافات هامة.

غالباً ما يستلزم الأمر تكرار هذه العملية بين النحلات المقيمات، يقمنَ خلالها بمضغِ الرحيق مدةَ نصف ساعة تقريباً لتحوّله الأنزيمات إلى منتَج أقلَّ عرضةً للتعفن بفعل البكتريا وأسهلَ للهضم من قبل النحل. يصبح الرحيق بعد ذلك عسلاً جاهزاً للصب في الأعين السداسية المخصصة للتخزين.

يوضَع العسل الناتج في الخلايا السداسية في المستعمرة ليتبخّر منه الماء من تلقاء نفسه في ظروف حرارة الخلية البالغة 32.5 درجة مئوية. ويدأبُ النحل ليحافظ على حرارة الخلية في حدود 32.5 إلى 35 درجة مئوية مما يساعد على تبخر المياه من العسل. تمشي النحلات فوق مستودعات العسل هذه مرفرفةً بأجنحتها بسرعة لتسريعَ عمليةِ التبخر.

لا تُغلق العيون السداسية الحاويةُ على العسل بالشمع قبل أن تتبخر المياه إلى الحد الكافي، بحيث تكون رطوبةُ العسل 17 - 18%. ليس الشمعُ المستخدم لختم الأعين إلا سائلاً تفرزه غددٌ بطنية يتصلّب بعد إفرازِه متحولاً إلى شمع.

قبل أن تعود النحلة لجلب حمولةٍ أخرى، تقوم بتنظيف نفسِها لتؤدي المهمةَ بأعلى كفاءةٍ ممكنة. وتكرّر النحلةُ العمليةَ طيلةَ حياتِها القصيرة دون كلل أو ملل.

يخزّن النحل العسلَ أساساً لتغذية الحضنة وتغذية نفسه عندما تسوء الأحوال الجوية شتاءً. ويتعيّن على المربي الحفاظ على الكميات الكافية من العسل في الخلية لضمان استمرارها، فلا يقطفُه كاملاً وإلا فعليه تأمينُ مصدرٍ غذائي آخَر في الظروف السيئة.

يختلف لون ونوع وقوام العسل وحتى رائحته تبعاً لنوع النبات أو الأزهار التي جُمع منها الرحيق. ولمّا كان النحلُ قادراً على الطيران مسافةَ ثلاثةِ أميالٍ (4.8 كم)، كان من الصعب التأكّدُ تماماً من مصدر العسل. يعتَبرُ ذلك هاماً عند الرغبة بإنتاج العسل العضوي، إذ تشترط القوانينُ أن يكون النحل قد سرح في أرض مزروعة عضوياً. يلجأ المربون لإحاطة الخلية بنوع نباتي معين للحصول على عسلِ ذلك النوع.

يتكوّن العسلُ وسطياً من الماء (17%)، سكر الفركتوز (31%)، سكر الغلوكوز (38%)، سكر السكروز (1%) وسكاكر أخرى (9%)، إضافةً إلى 4% من أحماضٍ عضوية وموادَّ أخرى. يمكن حفظُ العسل بكامل جودتِه إلى وقت غير محدود إذا ما عــُـزل عن الهواء والماء. قد يخطر في بال البعض السؤال عن وجود حبوب الطلع في العسل؛ في الواقع يبقى العسل عسلاً بدون وجود حبوب الطلع التي إن وجدت فيه فتكون مصادفةً لم يتعمّد النحل حدوثَها، وبنسَبٍ مهملة لا تؤثر في قيمة العسل الغذائية، فالأصل أن العسلَ مصنوعٌ من الرحيق فقط. يلجأ الباحثون أحياناً إلى تتبُّعِ آثار حبوب الطلع في العسل لمعرفة النوع النباتي الذي تم جمع العسل منه.

أخيراً فإن النحلات "حلوات اللسان" إن جاز التعبير ليست الكائنات الوحيدة التي تستمتع بالمخزون العسلي فالإنسان إضافةً إلى حيوانات كالدببة والغرير، تُغِير على مستعمرات النحل لقطف العسل أيضاً.

المصادر:

هنا

هنا

هنا

هنا