البيولوجيا والتطوّر > علم الجينات

قوى داخلية لمحاربة الفيروسات

طريقة جديدة وواعدة اكتشفها العلماء تحت إشراف الدكتور دنغ Ding من جامعة كاليفورنيا قد تساعد في حماية البشر مستقبلاً ضد الأمراض القاتلة التي تسبّبها الفيروسات، وذلك بعد العديد من الدراسات والأبحاث التي استغرقت عشرين عاما شملت النباتات وذبابة الفاكهة والديدان المدوّرة (nematodes) والفئران.

توصل الباحثون إلى أنّ النباتات والحيوانات اللافقارية والثدييات تستخدم مايسمى الـ RNA الاعتراضي (RNA Interference) لتدمير الفيروسات ضمن خلاياها. يقوم هذا الRNA بعملية بيولوجية تتضمن إنتاج الخلية لسلاسل قصيرة من الحمض النووي الريبي (RNA)، تعمل على الارتباط بالمادة الوراثية للفيروس وتنشّط عملية تفكيكها، وبهذه الطريقة تساعد الخلية على مقاومة الفيروس. كما أنّها تعتبر مهمة جداً لتنظيم التعبير الجيني أو الوراثي في الخلايا.

كان العلماء عاجزين إلى الآن عن إثبات أنّ خلايا الثدييات قادرة على قتل الفيروسات باستخدام الـ RNA الاعتراضي. ولكن المثير بالأمر أنّ أبحاث الدكتور دنغ الأولى على النباتات والديدان المدوّرة وذبابة الخل هي التي ساعدته للتوصّل إلى المفتاح الرئيسي لهذه العملية؛ وهي أنّ الفيروسات تقوم بالاحتيال على آليّات الدفاع في خلايانا، وذلك باستخدام بروتينات تثبّط هذه الآليّات القاتلة للفيروسات. ووفقاً للدكتور دنغ، ما إن تتخلّص من تلك البروتينات المثبطة فإنّ الجسم يبدأ فوراً بالتخلّص من الفيروسات عبر الـ RNAi (الاعتراضي)، الذي يرسل العديد من تلك الجزيئات الصغيرة التي تقوم بقتل الفيروس, حيث لاحظ الباحثون أنّ فئران التجربة التي حُقنت بفيروس(Nodamura) ماتت، ولكن فور قيامهم بالتخلص من البروتين المثبّط B2 الخاص بالفيروس، سارعت الفئران المصابة إلى إنتاج كمّيات كبيرة من جزيئات الـ RNA الاعتراضي الصغيرة (siRNA) للتمكّن من البقاء على قيد الحياة سليمة، وتنجو من العدوى الفيروسية المميتة.

ليس الفيروس المدروس (Nodamura) معروفاً للكثيرين، ولكنّ هذا الفيروس الذي يصيب الفئران أثبت أنّه هو النموذج الأفضل للدراسة، بحسب ما يقول د. دنغ.

بدأت قصة العالم دنغ مع دور الـ RNA الاعتراضي المضاد الفيروسات عندما كان طالباً في الدراسات العليا، حيث درس أنّ الجينوم (المادة الوراثية) في الفيروسات الممرضة للنباتات والحيوانات متشابهة إلى حدّ بعيد، على الرغم من أنّ النباتات والحيوانات مختلفة عن بعضها. وهذا ما دفعه إلى الاعتقاد بوجود آليّات مقاومة للفيروسات مشتركة بين النباتات والحيوانات.

توصّل دنغ إلى الدليل الأول حول نظريته بينما كان يدرس فيروس موزاييك الخيار الذي يصيب أكثر من 1000 نوع نباتي تتضمّن العديد من المحاصيل الزراعية المهمّة. وباستخدام طرق التحليل الحاسوبي تمكّن دنغ من التوصّل الى جين صغير أطلق عليه اسم b2، وأثبت أنّه يلعب دوراً كبيراً في مساعدة الفيروس على الانتشار ضمن النبات المصاب. وبالاعتماد على نتائجه وغيرها من الدراسات التي تم نشرها حول دور البروتين B2 في فيروس (Flock house) وهو أحد العوامل الممرضة للحشرات، افترض العالم دنغ في العام 1995 أنّ كلاً من المورّثة 2b والبروتين B2 يعملان على تثبيط آليّات المضيف المقاومة للفيروسات.

في العام 2000 انضمّ العالم دنغ إلى جامعة كاليفورنيا UCR ليكمل الجزء الثاني من بحثه، وهو: هل بروتين B2 في فيروسات (Flock house) قادر على تثبيط آليّة الـ RNA الاعتراضي عند الحيوانات؟

في السنوات الخمس التي تلت وصوله إلى جامعة UCR وباستخدام فيروس (Flock house) توصّل البروفيسور دنغ الى أنّ كلاً من ذبابة الخل والديدان المدوّرة تمتلك آليّة دفاعية تعتمد على الـ RNA الاعتراضي شبيهة بتلك التي توجد عند النباتات، ولكن مع فارق بسيط هو أنّ البروتين B2 في الفيروس يعمل على إيقاف هذه الآليّة الدفاعية وتثبيطها. وبالتخلص من هذا البروتين تبدأ الحيوانات المصابة بإنتاج كميات كبيرة من الـ RNAi وتدمير الفيروس بسرعة.

أظهر هذا الاكتشاف أنّ الـ RNAi هو آليّة مضادة للفيروسات في النباتات والحشرات والديدان المدوّرة, كما فسّر ذلك لماذا يجب على الفيروسات أن تحافظ على بروتينات خاصة بتثبيط تلك الآلية الدفاعية. ولكن فيما بعد طرح البروفيسور دنغ السؤال التالي: طالما أنّ الـ RNA الاعتراضي قد حافظ على كونه آلية مقاومة للفيروسات عند هذه الكائنات خلال ملايين السنين من التطوّر، فما السبب وراء توقّفه عن العمل عند الثدييات؟

وللإجابة على هذا السؤال استعان البروفسور دنغ بفيروس قريب من فيروس (Flock house)، وهو فيروس (Nodamura) المميت للفئران. وبالتعاون مع أحد المعاهد في زيورخ في سويسرا توصّل إلى وجود جزيئات الـ RNAi المضادة للفيروسات في مزارع الخلايا الجنينة المعزولة من الفئران والمصابة بفيروس التهاب الدماغ وعَضل القلب. هذا الاكتشاف فتح الباب لطرق جديدة لمواجهة الفيروسات الخطيرة التي تصيب الإنسان.

يقول العالم أنّه على الرغم من احتمال وجود العديد من الآليات المناعية المقاومة للفيروسات إلّا أنّ دور الـ RNA الاعتراضي قد يكون هو فعلاً ما كنّا بحاجة لمعرفته لنفهم أكثر حول قدرة الإنسان على مقاومة الفيروسات. وقد تكون هذه الآليّة هي أكثر تلك الآليات أهمّية

المصدر