التاريخ وعلم الآثار > الحضارة السورية

العمارة الجنائزية: هي المدافن الخارجية في بلاد الشام، وهي نموذج فريد من نماذج العمارة الجنائزية

يتميز نمط المدافن الخارجية بالتنوع الكبير؛ إذ نجد أمثلة عديدة في مناطق مختلفة من بلاد الشام عائدة إلى فترات مختلفة وتحمل تأثيرات كلاسيكية أو محلية شرقية، وهذه الأمثلة تشترك في طريقة الدفن؛ إذ تكون عملية الدفن والصرح المعماري موجودة جميعها فوق سطح الأرض، لكن الاختلاف يكمن في شكل الصرح الخارجي.

وأنواع هذه المدافن هي:

أولاً- المدافن المعبدية:

ظهرت في مطلع القرن الثاني الميلادي؛ إذ يكثر وجود هذا النوع في منطقة المدن الميتة (المدن الأثرية السورية حديثًا) كدير المشمش في جبل سمعان أو في رويحة في جبل الزاوية إضافة لمنطقة اللجاة وشهبا في جنوب سورية.

الشكل (1): مدفن معبدي في رويحة

ويتألف هذا النوع عادةً من مصطبة توجد في داخلها قبور الدفن وفوق هذه المصطبة توجد غرفة مستطيلة الشكل بأبعاد ليست كبيرة تحمل سقفًا جملونيًا مبنيًّا من الحجر، ويكون البناء على هيئة معبد كلاسيكي ذي رواق مؤلف من أعمدة تحمل تيجانًا مختلفة الطراز، ويحمل هذا الرواق جبهة مثلثة.

ونجد هذا النمط من المدافن ذي الواجهات المعبدية في البتراء أيضًا وهو مزين بالأعمدة التي تحمل التيجان النبطية أو الكلاسيكية مع وجود جبهات مثلثية، وهو مبني على نظام طابقين ويبدو أن هذا النمط من المدافن في البتراء يعود إلى فترة بعد إلحاق المدينة بالإمبراطورية الرومانية.

ومن أهم المدافن التي تحمل واجهات معبدية على طابقين هو مدفن "خزنة الفرعون" في البتراء؛ إذ يُعَدُّ هذا المدفن من أهم وأشهر المدافن في البتراء وفي العالم، فيحمل هذا المدفن مجموعة عناصر زخرفية من التيجان والجبهات المثلثة والأعمدة والأفاريز ذات الأصول الهلنستية على نحو خاص.

الشكل (2): مدفن خزنة البتراء

إن تقنيات النحت في الصخر تشبه تلك التقنيات التي نجدها في المناطق الشمالية من بلاد الشام، أما الزخرفة فهي كلاسيكية الأصل، نحتت واجهته على مستوى طابقين في الصخر، يبلغ عرض الواجهة 28 م وارتفاعها حوالي 40 م، وتوجد كذلك محاريب وأفاريز من الطراز الكلاسيكي الغنية بالزخارف وكذلك النقوش النافرة.

وقد جاء الطابق الأرضي على شكل رواق محمول على ستة أعمدة تحمل التيجان الكورنثية، ونجد في الأعلى الجبهة المثلثية، أما الطابق الأعلى فيتألف من ثلاثة أقسام؛ إذ نجد في الوسط كتلة دائرية مؤلفة من أربعة أعمدة تحمل سقفًا مخروطيًّا وفي الأعلى يوجد جرن وعلى جانبيه يوجد محرابان محفوران في الصخر، أما الداخل فيتألف من غرفتين محفورتين في الصخر واحدة إلى اليمين والأخرى إلى الشمال، أما الواجهة فتتألف من درج يقود إلى الغرفة الرئيسية إذ فُتِح معازب في الجدران الثلاثة للقاعة.

وتوجد أشكال أخرى من المدافن الشبيهة بهذا المدفن -إضافة إلى مدفن الخزنة- وهو المدفن الكورنثي أو مدفن الجندي الروماني الذي تشبه واجهته واجهة معبد صغير، أما المبنى الذي يسمى بالدير فيبدو أنه كان مخصصًا للطقوس الدينية أو كان يُستخدَم كمضافة للطقوس المرتبطة بالحياة الدينية أو الجنائزية.

الشكل (3): مبنى الدير في البتراء

ثانياً- المدافن الهرمية:

وتتألف من صرح معماري مؤلف من طابقين ومغطى بسقف على شكل هرم، ونجد هذا النمط في مدينة حمص السورية لكنه دُمر من قِبل العثمانيين في سنة 1911 م، ومع أن الرحالة تركوا لنا الكثير من الرسومات المختلفة التي تعطي معلومات وافية عن شكله وأبعاده لكن لا يمكن تأكيد هذه المعلومات إلا بالحفريات الأثرية.

ونجد مثالًا مشابهًا في الهرمل في لبنان؛ إذ يرتفع المبنى على قاعدة مدرجة ذات شكل مربع، ويتألف من طابقين مربعي الشكل، أما الطابق الثالث فهو على شكل هرمي، وقد زُيِّنت واجهات المبنى من الزخارف المختلفة، ويمكن تأريخ هذا المبنى إلى الفترة الواقعة بين القرنين الأول قبل الميلاد والأول بعد الميلاد.

الشكل (4): مدفن هرمل في لبنان

وقد تعرَّف دارسو الآثار في فلسطين -وتحديدًا في مدينة القدس- على الكثير من المدافن، ولكن يوجد مبنى وحيد يمكن إدراجه كضريح جنائزي مشابه للأمثلة السابقة في أجزائه السفلية بينما يختلف في شكل الطابق العلوي ويسمى هذا الضريح باسم "أبسالوم"؛ إذ يتألف من قسم محفور في الصخر وهو الجزء السفلي أما الجزء العلوي مبني من الحجر، ويقع هذا المدفن على قاعدة مربعة الشكل، ويتألف من جزء مربع مزين بأنصاف الأعمدة المبنية وفق الطراز الدوري وتوجد في الزوايا دعامة، ونجد فوق الأعمدة إفريز ويعلو الإفريز طابق آخر مربع الشكل فوقه جزء دائري يحمل رأسًا على شكل قلنسوة، ويمكن تأريخ هذا الضريح إلى الفترة الواقعة بين القرن الثاني قبل الميلاد والقرن الأول للميلاد.

الشكل (5): مدفن أبسالوم في القدس

ثالثاً- المدافن البرجية:

وتتميز هذه المدافن بوجود قاعدة مربعة الشكل على نحو عام، ويتألف كل برج من عدة طوابق يصل ارتفاعها إلى خمسة أمتار في بعض الأحيان، وقد بُنِيَ كل برج فوق مصطبة مربعة الشكل، ويكون مجهزًا من المعازب في الداخل أما بوابة البرج فتقع في إحدى جهات البرج، ويوجد درج داخلي يصل بين الطوابق.

وقد تناول كثير من الباحثين موضوع أصل البرج الجنائزي ومن هذه الفرضيات:

- فينسب هذا الطقس إلى العرب البدو وقد انتقل هذا الطقس واستمر مع هؤلاء أثناء انتقالهم إلى المناطق المجاورة.

- ورُبِطت الأبراج الجنائزية مع الأبراج الفارسية، لكن الأبراج الفارسية لم تُستخدَم كمدافن وإنما كمساكن، وهجرها الفرس في نهاية القرن السادس قبل الميلاد.

- وقد ربط هذا النوع من الأبراج بالمباني التي تحمل بصمات العمارة العسكرية.

ويوجد هذا النمط المعماري في سورية في مقبرة "وادي القبور" في مدينة تدمر ومنطقة الفرات الأوسط مثل دورا أوروبوس وحلبية وزلبية وفي منطقة الباغوز الغربية القريبة من البوكمال، ويوجد هذا النوع في المنطقة الجنوبية من سورية أيضًا كمدينة بصرى في محافظة درعا والقنوات في محافظة السويداء.

الشكل (6): مدفن برجي من تدمر

توجد بعض التشابهات والاختلافات في العناصر المعمارية الزخرفية بين الأبراج التدمرية والأبراج الأخرى في منطقة الفرات وجنوب سورية، علمًا أن الأبراج في دورا أوروبوس هي الأحدث زمنيًّا، فمثلًا تأخذ المعازب في تدمر شكل المربع بينما في دورا أوروبوس تأخذ شكل قبوة، أما في باغوز فإن الأبراج مبنية من كتل جبسية غير منظمة، ويكون أساس البرج عبارة عن قاعدة مدرجة تتوضع ضمنها معازب خارجية.

أما واجهات الأبراج فهي مؤلفة من أعمدة تحمل تيجانًا كورنثية وأيونية مدمجة في جسم البرج من الجهات الأربع.

وبالنسبة للمعازب فهي تأخذ شكلًا مشابهًا لمعازب دورا أوروبوس فهي على شكل قبوة، إضافة إلى أن أحجام الأبراج صغيرة مقارنة مع أحجام الأبراج التدمرية.

أما الأبراج في حلبية زلبية فمخططها مؤلف من قاعدة مدرجة، يتوضع المدخل ضمن القاعدة يليه ممر يفضي إلى الطابق الأرضي، وهوعبارة عن غرفة مربعة الشكل تقريبًا تحتوي على ثلاثة قبور حجرية بدلًا من المعازب، أما الزخرفة فهي متشابهة مع أبراج الفرات.

وتوجد بقايا لبرج جنائزي دائري الشكل في المقبرة الغربية من مدينة بصرى وهو مبني من الحجر البازلتي المشذب له بوابة في الجهة الشمالية الشرقية، وتوجد داخل البرج غرفة خالية ولايوجد ما يدل على وجود درج أو طوابق علوية.

أما الأبراج الجنائزية في القنوات فهي تتصف بوجود قاعدة مربعة الشكل، مبنية من الحجارة البازلتية المشذبة، تعلو مداخلها أقواس نصف دائرية يمكن الدخول منها إلى غرفة داخلية تحتوي على معازب ضمن الجدران الجانبية.

أما في موقع البتراء في الأردن فيمكن ملاحظة أن هذا النمط هو أكثر انتشارًا، ويحمل تأثيرات شرقية.

أما شكل البرج فيتمثل بواجهة برج مزخرفة في الأعلى وتكون أحيانًا على عدة طبقات أو على شكل سلم. نجد باب الدخول في الأسفل مزينًا بساكف من الجص أحيانًا والواجهات على نحو عام مكسية بطلاء.

أما في الداخل فقد كانت أشكال المخططات متشابهة إذ تُحفَر معازب الدفن في الجدران بأشكال مختلفة وواسعة لاستيعاب عدد أكبر من التوابيت.

إن التجديد الذي نلاحظه لدى الأنباط يتمثل بتحويل الأبراج إلى مجرد واجهة لبرج محفور في الصخر. وكذلك الزخرفة فهي ليست نبطية الأصل وإنما مشرقية؛ إذ تعود إلى تقاليد الشرق الأدنى في العصور القديمة وظهرت في الفن الفارسي في القرنين السادس والخامس قبل الميلاد.

ويوجد نمط آخر من المقابر في البتراء وهي واجهة تعلوها أربع مسلات، وتوجد مشكاة في الوسط إذ تقع مسلتين في كل جهة، أما باب الدخول فمزود بساكف مكون من أفريز ذي نمط دوري.

الشكل (7): مدافن تعلوها مسلات في البتراء

وأخيرًا: تعطي الأنماط المذكورة صورة عامة عن طبيعة العمارة الجنائزية في المناطق المختلفة من بلاد الشام.

شرح المصطلحات:

- إِفريز: الجمع (أفاريزُ)، الإِفريزُ: إفريزُ الحائط ونحوه: ما أَشرف منه خارجًا عن البناء.

- مِحْراب: الجمع (مَحاريبُ)، المحراب: حجرة في صدر المعبد أو المسجد.

- معازب: مكان للدفن ويكون في جدران المدفن، وهو عبارة عن أدراج توضع بها جثث الموتى، وعلى الجبهة الأمامية للدرج نجد تمثال نصفي يحدد شخصية المتوفى (رجل، امرأة، طفل، شاب، كاهن،....إلخ). ويذكر غالبًا في زاويته اليمنى اسم الشخص واسم والده وجده ويبدأ النص بعبارة وا أسفاه.

- ساكف: الجمع (سواكف)، الساكف: أعلى الباب.

- العمود الكورينثي: طراز أكثر تعقيدًا من الدوري والايوني؛ إذ يبنى تاج العمود على شكل زخارف نباتية.

المصادر:

1- عبد الكريم. مأمون، آثار العصور الكلاسيكية في بلاد الشام، دمشق، 2009.

2- البني. عدنان، الأسعد. خالد، تدمر أثريًّا تاريخيًّا سياحيًّا، دمشق.