التاريخ وعلم الآثار > حضارة اسلامية

حكيم قرطبة: موسى بن ميمون (ميمونيدوس) 1138 - 1204

الحبر موسى بن ميمون، الطبيب والفيلسوف والزعيم المحلي، المعروف في العالم اليهودي باسم (رمبام) وللعالم بأجمع باسم (ميمونيدوس)، أحد أهم الشخصيات التاريخية في تعليم التوراة. كتب على ضريحه عبارة "من موسى وحتى موسى، لم يظهر أحد كموسى" في إشارة إلى أنه أعظم موسى بعد موسى النبي نفسه حتى يومنا هذا وكتاباته منهل لطلبة العلم.

حياته

ولد موسى في قرطبة، في الأندلس، في الرابع عشر من نيسان، في ليلة الفصح، من العام 4895 في التقويم اليهودي الموافق للعام 1135 بعد الميلاد. كان والده ميمون، سليل الملك داوود، قاضياً في المحكمة الحبرية للمدينة، بينما توفيت والدته عندما كان طفلاً صغيراً. ويظن البعض أن إخوته الصغار هم من نتاج الزواج الثاني لميمون.

في عمر الثالثة عشرة اضطرت عائلته للهرب من قرطبة بعد سيطرة جماعة إسلامية متعصبة عليها. وقتها هجم المتظاهرون على اليهود، وتم إحراق العديد من الكنس.

سافر موسى مع عائلته بعدها من مكان لآخر باحثين عن مأوى. وبعد أن ضاقت بهم إسبانيا، انتقلوا إلى فاس في المغرب هو ووالده وأخوه الأصغر داوود لمدة خمس سنوات في العام 1165 بعد الميلاد. انتقل إلى الإسكندرية في مصر، ثم بعدها إلى الفسطاط حيث استقر وقضى بقية حياته حتى وفاته.

هناك كان أخوه الأصغر داوود يدعمه مادياً، إذ كان تاجراً للألماس يستورده من الهند. وقد أمن هذا الدعم المادي لابن ميمون الظروف المناسبة ليكرس نفسه لدراسة التوراة، ولينهي كتابه عن الميشنه، وهو كتاب بالغ الأهمية في الشريعة اليهودية من القرن الثاني للميلاد.

تعثر حظه بعد ذلك إذ فقد والده وزوجته واثنين من أبنائه في أقل من سنتين بدءاً من عام 1166م. بعد ذلك بعدة سنين، وفي عام 1171 م، غرق أخوه داوود عندما غرقت سفينته في الطريق إلى الهند. اضطر بعدها ميمون للعمل كطبيب، محاولاً بذلك إعالة نفسه وإعالة عائلة أخيه.

عُين ابن ميمون في منتصف خمسيناته كطبيب لصلاح الدين، سلطان مصر وسوريا، مما جعله مستقراً مادياً ومنحه المزيد من الوقت ليكرس نفسه للكتابة. لم يكن لديه من عائلته في ذلك الوقت غير ابنه ابراهيم، والذي كان أيضاً تلميذه المخلص دوماً.

توفي ابن ميمون في مدينة طبريا في العشرين من شهر تيفيت لسنة 4965 في التقويم اليهودي والموافق لشهر كانون الثاني من عام 1204 بعد الميلاد.

علمه

بدأ ابن ميمون تعليم ابنه بنفسه عن عمر مبكر، وجعله يتتلمذ على يد الحبر يوسف ابن ميقاش، المعروف بري ميقاش، والذي اعتبره ابن ميمون لاحقا مثله ومعلمه الأهم.

بدأ في منتصف عشريناته بكتابة عدة مجلدات عن الميشنا كانت باكورة أعماله والتي استغرقت عشر سنين حتى اكتملت. كانت نيته مساعدة من لم يستطيعوا فهم العبرية المستخدمة في الميشنا، واللغة الرمزية فيها، فقام بكتابة ملاحقه بالعربية ولكن باستخدام أحرف عبرية. كتب بعد ذلك مجلداً بالعربية دعاه (سفر حاميتسيوت) ذاكراً فيه الوصايا الـ 613. وقد تمت ترجمة كل هذه المجلدات للعبرية عدة مرات، أولها كانت عندما كان حياً.

أعمال أخرى

كتب ابن ميمون أيضاً كتاباً يدعى (موريه نيفوشيم) أو (دليل الحائر) والذي كان عملاً تأسيسياً في الفلسفة اليهودية. كما كتب (رسالة الشهادة) والتي كانت رسالته ليهود اليمن يآزرهم فيها في أزمتهم، ورسائل أخرى جُمعت في (بير حادور) ونشرت في يومنا كمجلد واحد. كما كتب ابن ميمون قسماً للأطباء، ونسبت له العديد من الكتب الطبية.

رموز الشريعة اليهودية

أعظم ما قام به ابن ميمون كان تدوينه للشريعة اليهودية في ما دعاه بـ (الميشنا توراه) أو التوراة الثاني. كان المجلد الرابع عشر تدويناً منطقية ممنهجاً للعقيدة اليهودية وشريعتها.

كان على المرء قبل أن ينتج ابن ميمون أعماله أن يقرأ كل التلمود حتى يفهم الشريعة اليهودية. وبما أن التلمود نفسه لم يكن حاسماً في العديد من الأمور، بل متناقضاً مع نفسه في العديد من الأحيان، كان من الضروري عندها قراءة الملحقات التي فسرت القانون بشكله النهائي. وقد كان الحبر اسحق الفاسي المعروف بالـ(ريف)، ومعلم سابق الذكر (ري ميغاش) أول من دون الشريعة اليهودية القابلة للتطبيق، وقد دونها كتفسير للتلمود.

كانت المشكلة تكمن في أن تشريعات التلمود وكل تفسيراته لم تكن منظمة بطريقة منطقية موسوعية، مما جعل البحث فيها أمراً شاقاً. فللعثور على التشريعات المتعلقة بالسبت يتوجب على المرء البحث في التلمود بأسره مروراً بعشرات الفقرات.

كان ابن ميمون أول من فهرس كامل متن القانون الشفوي للتلمودين والمدراش حلخاه المختلفة والأعمال اللاحقة للجاؤونيم ونصوص القبالاه، وتنظيمها كلها بطريقة منطقية ومنهجية. فتشريعات السبت مثلاً موجودة كلها في المجلد الثالث لمشناه توراه والمعنون بـ (زمانيم) أي الأزمان، والذي يحتوي على كل التشريعات المتعلقة بالسبت وأيام العطل، في ثلاثين فصلاً كل منها مقسم بدوره لأقسام صغيرة سهلة الفهم.

كما أبدى ابن ميمون أيضأ اهتماماً خاصاً بجعل عمله مفهوماً لكل اليهود، سواءً أكانوا فقهاء أو من عامة الشعب. كما أنه حذف بعض المصادر بغرض الإيجاز، إلا أن الدارسين صنفوا المصادر لاحقاً لكل تصريح في الميشنا توراه. وبسبب فصاحته واسلوبه البديع في الكتابة سمي بـ لسان الذهب.

وقد حلل الدارسون بعد ابن ميمون كل أعماله حتى آخر كلمة، محللين أسباب وضع قانون دون الآخر وترتيب واحد قبل غيره، أو تبويب أحدها في مجلد ما دوناً عن بقية المجلدات، حتى كادت الملحقات والتفسيرات حول مجلداته تصل لحجم التوراة بحد ذاته.

في ربيع 1984 قرر الحبر (مناحيم مندل شنيرسون) بالدعوة لإضافة فقرة للبرنامج الدراسي اليومي لكل شخص يهودي، رجلاً كان أم امرأة، وطفلاً كان أم بالغاً، وذلك بدراسةٍ يومية لبعض من الميشنو توراه، كتاب ابن ميمون الأعظم.

وقد اقترح الحبر نظاماً ثلاثة مناحٍ: إما قراءة ثلاث فصول كل يوم، أو قراءة فصل في اليوم، أو تعلم سفر حاميتسيوت كل يوم. ولاقى هذا الاقتراح القبول لدى عشرات آلاف اليهود المؤمنين، مما جعل أعمال ابن ميمون ذات شهرة منقطعة النظير.

المصدر:

هنا