التاريخ وعلم الآثار > الحضارة السورية

سبر أغوار الحضارة السورية ... أوغاريت كما لم تشاهدوها من قبل، الجزء الرابع: البناء ومخطط المدينة

أبدع الإنسان عبر مراحل حياته البدائية إلى يومنا هذا في استغلال طاقاته و عقله في استخدام الأدوات المتاحة للوصول إلى تحقيق راحته و أمانه و سعادته. و مروراً بالحضارة الأوغاريتية نجد عزم الأوغاريتيين في بناء حضارة عريقة ضمن الإمكانيات الموجودة لديهم.

عندما نتكلم عن الفترة الواقعة في منتصف الألف الثانية قبل الميلاد نجد مدى كثافة عمليات البناء و طريقة تعقيد المنشآت مما أدّى الى ظهور المختصين في أعمال البناء أصحاب المعارف والمهارات والمواد الضرورية للبناء، فكانت تظهر البيوت فيها متلاصقة إلى بعضها البعض لتكون أحياء تخترقها شوارع مستقيمة متوازية تتقاطع عموديا مع شوارع رئيسية عريضة.

وتبين الأسطورة عن بعلو الجبار أن العيش في بيت غريب كان أمراً مقيتا جداً ويدل على ضعة الوضع الاجتماعي، وإذا أراد الانسان وفق تصور ذلك العصر أن يغدو سيداً أي مواطنا كامل الحقوق فينبغي عليه أن يمتلك بيتا خاصا به. لقد كان البيت الأوغاريتي يتألف عموماً من طابقين يحوي الثاني غرف المعيشة ويتصل بالأول بسلم داخلي خاص.

استخدم الأوغاريتيون في بناء الطابق الأول -الحديث هنا يخص بيوت الأغنياء- الأحجار غير المنحوتة وكانوا يضعون الحجارة الكبيرة في الزوايا مما أعطى بيوتهم ثباتاً خاصاً، كان البيت يحتوي ملحقات أخرى ضرورية: مستودع، حمام، مرحاض وفي بعضها فسحة داخلية. في كل بيت لابد من وجود بئر ذات جدران حجرية و إلى جانب البئر وضعوا جرناً يسكب فيه الماء.أما مقابرهم فقد بنوها تحت الطابق الأول أو في دار المنزل وكان لها طريق خاصة يسلكونها عندما يدفنون موتاهم.

و أما بيوت الأبراج التي كانت منتشرة في العالم السوري – الفلسطيني في الالف الثانية قبل الميلاد، يعطينا البيت الذي ثُبِتَ إلى قاعدته رأسا تيسين تصوراُ معينا، فمدخل البيت على شكل قنطرة بين الطابق الأول والثاني ذات نافذة مثلثة الشكل و إلى الأعلى قليلا في نهاية السلم نافذة أخرى مستطيلة، بيت بطابقين ذو صفين من النوافذ المستطيلة تشرئب من الأسفل الى الأعلى و باحة صغيرة على السطح محاطة برؤوس البرج.

لاحظ الأوغاريتي الخطر الكبير في نوافذ البيت المطلة على الشارع. فجاء في أسطورة بناء بيت بعلو أن هذا الأخير رفض في بادئ الامر فتح النوافذ في بيته ولم يوافق عليها إلا بعد إصرار كوثروخسيس على ذلك بعد ان وثق كل الثقة من صون سلامته الشخصية. فمن المرجح أن النوافذ نادراً ما فتحت وكانت ضيقة جدا بحيث لا تسمح للخصم بالعبور منها إلى داخل البيت. كان طبيعياً أن تشغل القصور الملكية مكانة خاصة بين الصروح الأوغاريتية . نجد القصر الكبير الذي تبلغ مساحته هكتارا ً من الأرض والذي يتوضع في الطرف الشمالي الغربي للمرتفع الحالي الذي قامت عليه مدينة أوغاريت، قد أُعيد بناؤه أكثر من مرة.

بنيت جدرانه الأمامية من الكتل الحجرية ودعمت بعمدٍ مستطيلة لعبت دور الواجهات المضادة، وضم القصر في داخله تسع أقنية داخلية ( قامت في إحداها حديقة وفي الآخر حوض مرصوف بصفائح حجرية وفرن لشي الألواح) و عدد كبير من القاعات وغرف المعيشة وورش الحرفيين والمستودعات وغرف الأرشيف، وثمة سلم رئيسي يقود إلى الطابق الثاني جانب عدد من السلالم الجانبية.

إلى الجنوب من القصر الكبير شيد القصر الصغير وبنيت هنا الأروقة والعمد ونظام من القاعات و غرف المعيشة و المستودعات .كما استخدمت الكتل الحجرية أيضا في بناء الجدارالأمامي لهذا القصر. فنرى القصر الملكي الأوغاريتي أثار دهشة المعاصرين بفخامته وغناه وغدا مقياساُ للقصور الفاخرة .

في بداية الالف الثانية قبل الميلاد على الارجح بني القصر الثالث من الكتل الحجرية أيضا وجعلت عتباته من حجر واحد. أثناء عمليات البناء الجارية في منطقة رأس ابن هانيء ( إلى الجنوب الغربي من أوغاريت )تمّ اكتشاف القصر الصيفي لملوك أوغاريت وكان قد شيد في القرن الرابع عشر قبل الميلاد. تنبسط طريق تؤدي إلى الفناء الداخلي عبر المدخل الذي قام عمودان على جانبيه و القاعة التي تتصل بعدد من الغرف الداخلية. عموما مخطط بناء هذا القصر شبيه بمخططات بناء بيوت أغنياء أوغاريت و القصر الملكي المحلي وقصر ملك .

كما اكتشف بناء عظيم آخر عند الطرف الشرقي للحي السكني، يعتقد أن المدخل إليه كان في الجدار الشمالي -تهدم هذا الجدار تماما- وكان ثمة باب في الجدار الجنوبي، وفي البناء ذاته وجد عدد كبير من الأقنية والقاعات والغرف المتصلة مع بعضها البعض بسلالم ومعابر، أما جدرانه فقد بنيت من الكتل الحجرية وقد زين مدخل أحد الأقنية بالأعمدة. كما تمّ بناء مدافن العائلة تحت هذا البناء الامر الذي ينفي -حسب رأي ج. ماغيرون –إمكانية استخدامه لحاجات اجتماعية. وإذا كان الامر كذلك يجوز لنا الاعتقاد أن هذا البناء كان يعود إلى شخصية حكومية كبيرة أو لأحد كبار أغنياء أوغاريت. نحن لا نعرف إلا القليل عن المنشآت الدفاعية الأوغاريتية. لقد بنيت هذه المنشآت من الحجر الفظ وهي لم تختلف كثيرا عن مثيلاتها في باقي دول آسيا المطلة على البحر المتوسط.

اعتماداُ على الرسومات المصرية يمكن لنا أن نتصور مخططات القلاع السورية الفلسطينية التي كانت عبارة عن صفين من الجدران العالية التي تنتهي برؤوس وكوى تحيط بالمدينة مع أبراج على جانبيها- أي ساحات خاصة- وبوابات في وسط الجدران المحاطة بأبراج دفاعية.

لقد بنيت بيوت السكن في أوغاريت اعتمادا على أن حياة ساكنيها مركزة في الداخل - باستثناء أعمال الحقل والأعمال التجارية- بحيث يمكن تأمين حاجات العيش الرئيسية في حدود الاحتياطات الموجودة وهذا الشيء نفسه ينطبق على المدينة.

و من ناحية الحفاظ على الأثار المتبقية من المدنية نلاحظ في هذه الصور تدخل عنصر الطبيعة في إيذاء هذه الأوابد و ذلك في انتشار الاعشاب و النباتات بشكل كثيف، وهي تشكل خطراً كبيراً على هذه الاوابد الأثرية حيث تقوم باقتلاع الاحجار و تفتيتها الامر الذي يسهل انهيارها، و هنا يتوجب على المجتمع المحلي و الجهات المختصة العمل معا على إزالة هذه الاعشاب و ذلك بالطرق البدائية دون استخدام المواد الكيماوية خشية التأثير السلبي على البيئة المحيطة. كما يجب المواظبة على الصيانة و الترميم بشكل دوري للمحافظة على الأوابد الأثرية و عدم خسارتها نتيجة عوامل الطبيعة.

مدفن أوغاريتي

قاعة الاستقبال في القصر الملكي حيث كان المواطنون ينتظرون للقاء الملك

قاعة الاستقبال في القصر الملكي حيث كان الناس يتكلمون مع الحارس عبر النافذة لترتيب ومعرفة موعد لقاء الملك

قنوات المياه المؤدية الى قاعة القصر

قنوات مياه جدارية .. تنقل المياه عبر الجدار لتغذي القصر ..

بئر الماء المغذي للقصر

مدخل القصر الملكي

بحرة في باحة القصر الملكي

ساحة القصر الملكي التي يتم من خلالها الذهاب إلى غرف القصر

مدخل القصر الملكي

وتتقدم مبادرة الباحثون السوريون بالشكر للأستاذ حمزة باطية - طالب سنة رابعة في كلية السياحة - على إسهامه الفريد في مساعدتنا في إنجاز هذا البحث.

المصادر:

شيفمان، إ. ش. (1988) ثقافة اوغاريت ، ترجمة حسان اسحق. ط1. دمشق: الأبجدية للنشر.