كتاب > روايات ومقالات

زوربا: البحار اليوناني ورقصة الحياة الأسطورية

بعدَ أنْ أرسلَ صديقَهُ الوحيدَ إلى أحضانِ الحربِ، وبعدَ أنْ أمضى شبابَه متورطاً في الكلماتِ وتجاوزَ أخيراً الحبَ والأملَ والوطنَ والإله والأبدية، انتهى المطافُ بهذا الفيلسوف الثلاثينيّ عند بوذا، في إحدى مقاهي البحّارة على ميناءٍ منسيّ، حيث التقى بمَنْ يمكنُ تسميته "زوربا"، ميليديو، مجرفة الفرن، أو حتّى القدر!.

لن ترى يوماً رجلاً ممزوجاً بالألم والملح والبحر والحرب كزوربا،انغماسُه في الحياةِ مثيرٌ للحسدِ بشكلٍ ما، فماذا تتوقع ممّن يقابلُ الشّمسَ كلّ يومٍ بقلبٍ رضيع حديثِ المعرفة بالأرضِ؟ وبشغفِ فنانٍ مُعذّبٍ يرى السّحرَ والجّمالَ في كلّ موجةٍ و كلّ حبةِ رملٍ، متربعاً على الأشجارِ الزّمرديّة وفي عيونِ كلّ نورسٍ طائرٌ؟

هذا الثنائيّ الغريب الّذي اجتاحَ "كريت" اليونانيّة مستترين بغطاءٍ، مستثمري المناجم، معيدينَ الحياةَ إلى الجّزيرةِ المستسلمةِ لأقدارِها، لم يكونا ليتوقعا أنْ تنتهي رحلتهما بهذهِ الطّريقة. متشبّثين بأصابعِ الحياة ومتعثّرين بالحبّ والكهنةِ المنفيين وأبطالِ الحربِ القدماء.. وتلك المرأة المختبئة بين أسوارِ البلدةِ القديمة هرباً من يدِ الموت.

ولعل الأهمّ من ذلك هو علاقة الإحتياج المتبادل الّتي نشأتْ بين بطلِ روايتنا الشّاب والبحّار العجوز، في رحلةٍ أفلاطونيةٍ من نوعٍ خاصّ، استطاعَ من خلالِها فيلسوفُنا الشّابُ إعادةَ اكتشافِ الحياة، وكأنّه يقابلُها لأوّلِ مرّة. وعلى يدِ البحّارِ العجوزِ، تعلّمَ أبجديةَ الكونِ الخاصّة، وخرجَ بروحِه الّتي اكتفتْ بالظّلّ لفترةٍ طويلةٍ، فقادها إلى الجّسد التوّاق إلى الحياة.

من الصّعبِ تلخيصُ نظريّاتِ "زوربا" المبتكرة، أو حتّى محاولةِ الإحاطة بأحداثِ رحلتهما معاً! ولكن فترة إقامتهما في تلك الجزيرة المُغرَقة بالقصصِ والأسرارِ كانتْ حافلة بكلّ ما للكلمةِ من معنى. فمثلاً، زيارتُهما الغريبة إلى الدّيرِ القابعِ في المجهولِ!، والعلاقةُ الغامضةُ الّتي جمعتْ زوربا بعجوزٍ عاصرتْ التّاريخَ ورجالَه، ولكنّها تمسّكتْ حتّى آخرِ أيامَها بالحلمِ المتأججِ في داخلِها لتكوينِ منزلٍ تكون فيه الزّوجةَ الشّرعيةَ، فتختم بهذه العلاقة الشّريفة شبابها المترع بالعشّاق و المُريدين!. كذلك الأمر لأهلِ البلدة المتصارعين بصمتٍ فيما بينهم، وعلاقتهم بالأرملةِ الّتي تمثّلُ الفاكهة المحظورة في أعينِهم، لتتجسّدَ من جديدٍ رمزيّةُ آدمَ وحوّاء بحلةٍ إغريقيّةٍ فريدة. فلطالما كانو هاربين دائماً من الحبّ رغم تحليقِهم حوله كفراشةٍ تهابُ النورَ المُحرِقَ، ولكنّها أيضاً على استعدادٍ للموتِ في سبيلِ دفئه النّادر.

ولكن هذه الأحداث كلّها ليستْ سوى إطاراً للّوحةِ الرّئيسية، حيثُ يجلسُ زوربا على شاطئِه الخاصّ ممسكاً بسجائرِه، يلفّ شاربَه السّميكَ، ويتأمّلُ - بعيونٍ لا تنتمي إلى هذا العالم- حياتَه الّتي امتدّت كما قد يبدو لقرونٍ من الزّمنِ، يتأمّلُ ماضيه كجنديّ مغوار لا يرى سوى أرضَه اليونانيّة وواجبَه الأعمى في حمايةِ آخر بقاع الأرض - في نظره- من الزّوالِ من ثمّ اتّحاده الخفيّ بالتّرابِ وانصهاره مع فحمِ المناجمِ وحجارةِ الأنفاق. رجلٌ يذوبُ بكلّ ما فيه لأيّ حلمٍ يداعبُ كيانه مقتنعاً بأنه يزداد شباباً روحياً كلّ يومٍ لاعناً الزّمنَ المخادعَ الّذي يمتصّ قوة َجسدِه وطاقته الفيزيائيّة الهشّة، بينما هو أحوج ما يكون إلى كلّ القوّةِ الّتي يستطيعْ. لكن زوربا وفي خوضِه الحياةُ كشخصيّةٍ ميثولوجيةٍ هاربة من إلياذةٍ منسيّة، بقي عاجزاً عن فهمِ أعمق الأسرار الكونيّة: الإله والشيطان! وأمضى الكثيرَ من سنينِه تابعاً للاثنين بعد أنْ تعمّدَ في معابدِ الإله والتحقَ بجيوشِ الشّيطانِ، فامتزجا عنده في كيانٍ واحدٍ كان بمثابة "نفسه الخالدة"، لتتجسّدَ هنا النّظرة الصّوفية الخاصّة بـ"كزانتزاكيس" والسّائدة في أعمالِه.

قد يكون من الظّلمِ أن نتجاهلَ اثنين من أبطالِ هذه الرّواية الخفيين: السّانتوري العزيز والمرأةُ الغامضة، فعلى الرّغمِ من كونِ زوربا رجلأ قد رأى كلَّ شي، لكنّه يبقى رجلاً مغرماً حين يتعلّقُ الأمرُ بهذين الاثنين، ورغم عدم اعترافه دائماً بعشقِه الّذي لا ينضب للنساء، لكن رقّته المُنسابَة كنبعٍ وُلِد على حافّةِ البحرِ حينما يُعانقُ السانتوري أو حينما يلمحُ دموعَ الأنثى كانت نادرةً بشكلٍ مدهشٍ، وبالطّبع كان لديه عددٌ لا بأس به من النّظريّات حول الاثنين.

عند اقترابك من نهايةِ هذه التّحفة الأدبيّة لن تملكَ سوى الأمل!. الأملُ بأنْ يتمكّنَ الفيلسوفُ الشّابّ التّائه من الوصولِ لذاتِه الحقيقية وأن يلمسَ يوماً ما الكلمةَ السّحريّة الّتي ستضيءَ الفراغَ الهائلَ في داخلِه. الأملُ بأنْ تتحققَ معجزةٌ ما وأن يكونَ الزّمنُ قد عفا عن "ألكسيس زوربا" ومنحَه بضعَ سنواتٍ من الأبديّةِ ليتمكّنَ من تأديةِ دوره كاملاُ على هذا المسرح الكونيّ، وأنْ يكونَ القدرُ قد أرسله إليك من جديدٍ على هيئةِ صديقٍ أو رفيق دربٍ أو حتى موجةٍ تعترضُ طريقَك يوماً ما. لعلّك تقفُ وجهاً لوجهٍ مع هذه الرّوح التي ستتقدمَ دائماً بأسرعِ ممّا يتقدم العالمُ، وتتعلّم أنْ تتكلّم بكلّ حواسّك وتشهد على هذا التّفاهم الخرافيّ بينَ الإنسانِ والكونِ، فإذا عجزتْ لغةُ الحروفِ يوماً ما عن إيصالِ الشّغف المتفجّر في كيانِك فما عليك وقتها سوى أن تقفَ وترقصَ! لترقصَ ما تريد قولَه فربّما تكون قد وقعتَ في حبّ لغةٍ جديدةٍ لم تعرفْ يوماً بأنّك تتقنها.

الكتاب: زوربا اليونانيّ.

المؤلف: نيكوس كزانتزاكيس.

تاريخ النّشر: 1946

ترجمه للعربية: جورج طرابيشي وتُعدُّ هذه الترجمة من أفضل الترجمات التي نُشرِت للرواية.

الدار: دار الآداب عام 2002