التاريخ وعلم الآثار > التاريخ

في نيويورك سوريا الصغرى، معركة للحفاظ على الماضي

مَثّل أمين الريحاني، المؤلف الأمريكي العربي الأصل، جزءً أساسياً من الوسط الأدبي العربي في نيويورك في مطلع القرن التاسع عشر رفقة جبران خليل جبران وغيرهم ، إذ غدى هذا التجمع الأدبي خيطاً لا يتجزأ عن النسيج الاجتماعي الغني في أول مقاطعة عربية في أميركا، سوريا الصغرى. تلك المقاطعة التي خرج من رحمها تُجّار أثرياء ومثفقين وكتّابٌ أيضاً ، بالإضافة إلى ابتكارات مميزة ساهم فيها مجتمع "سوريا الصغرى" بخدمة المجتمع مثل آلة الينوتايب Linotype machine التي استخدمت لطباعة الأحرف العربية.

انتهت بقايا "سوريا الصغرى"، هذا المكان المفعم بالحيوية والنشاط، أُهملت العديد من الأحياء، ودور العرب الأمريكيين في التاريخ التكويني للبلاد في الحقب المختلفة لم يعد ظاهراً في تلك الأماكن، كل ذلك اختفى.

في الآونة الأخيرة ناضل المؤرخون والنشطاء للحفاظ على عدد قليل من المباني المتبقية في شارع واشنطن في منهاتن، بقي القليل من المباني في موقع برجي مركز التجارة العالمي، لتبدأ تحركات النشطاء من أجل ضم هذا التراث إلى المتحف التذكاري في المدينة كي يشمل تاريخ هذه المنطقة التي كانت متنوعة بأعراقها ومكوناتها الاجتماعية في الماضي.

هذا المتحف الذي تم إنشائه في أبريل من عام 2006 تلقى عشرات الملايين من دولارات دافعي الضرائب، تقرر افتتاحه ليكون جزءا من الحادثة الأليمة في 11 سبتمبر 2001، الذي يبعد مقره بضعة شوارع عن الموقع التذكاري لبرجي التجارة.

وكان توثيق تاريخ المنطقة التي تحيط ببرجي مركز التجارة العالمي من أبرز أولويات أعمال هذا المتحف، لكن المدراء التنفيذيين للمتحف رفضوا ضم تاريخ سوريا الصغرى أو عرض أي من أعمالها الفنية. وكان ذلك بسبب أحداث 11 سبتمبر التي ما لبثت أن أضفت جواً من الاحتقان في أواسط الأمريكيين لرفض أي شيء قادم من العرب أو من ثقافتهم.

يُعد منع سوريا الصغرى من عرض متحفها بمثابة تفويت فرصة للتعبير عن ارثها العظيم من خلال وضع العرب في قلب اميركا العظيمة كمكون أساسي في المجتمع الامريكي بشكل عام وفي مجتمع نيويورك بشكل خاص، لم يكونوا مجرد مهاحرين، بل كانوا سكاناً محليين أوفياء لبلدهم الجديدة، وعبر تاريخهم الطويل لم يكونوا عدائيين ضد مجتمعهم الأمريكي.

"قد تكون طريقة جيدة جداً لتعريف الناس من يكون العرب الامريكيين من خلال الحديث عن تاريخهم هنا " يقول تود فاين ، المؤلف والمؤرخ والدارس لأدب الريحاني، الذي ساعد في إدارة "مجموعة الحفاظ على شارع واشنطن"، أردف قائلا بعد ذلك: "لماذا الناس قلقون حول موضوع المتحف؟ لماذا لا تكون سوريا الصغرى علامة لشيء راقي يستحق الإفصاح عنه" .

رفض المتحف هذه المطالب، وكان رد القائمين أن طرح هذه الفكرة جاء متأخراً ولم يعد بالإمكان إدراجها في تصميم المتحف.

"اذا لم تريدوا اضافة تاريخ سوريا الصغرى للمتحف ، لماذا لا تضعون معلقات جبران او الريحاني على الحائط؟" يتابع السيد فاين الإجابة على تساؤلاته: "لم يكترث احد ،لا بل تم تجاهله".

بعد اشهر من تحليق الطائرتين واصطدامهما بالبرجين في 11 سبتمبر عام 2001 ، الكارثة التي أدت الى مقتل اكثر من الفين و ستة مئة شخص ، وبينما كان العمال ينظفون موقع الحدث اكتشفوا احجارا من احدى الكنائس المارونية الاصلية الموجودة في سوريا الصغرى .

رفض المتحف حينها ضم احجار الكنيسة المقدسة في احدى مجموعاته ، لكن بعد اشهر من الضغط ، قرر المتحف حينها اعادة النظر في ادراج التاريخ العربي بشكل مؤقت في مرحلة ما في المستقبل .

"ضاعت هذه الفرصة بشكل رهيب " كما قال مصطفى بايومي ، مؤلف كتاب: كيف تشعر عندما تكون انت المشكلة ؟ ان تكون شابا وعربيا في اميركا، أكمل السيد مصطفى بايومي: "لا استطيع أن أقول ما هي دوافعهم بالتحديد، لكن من العدل ان نقول ان المناخ الذي نعيش به اليوم ، من السهل جدا على المسلمين أو العرب بشكل عام أن يصبحو مسيسيين لدرجة غريبة " .

السيد بايومي عبر عن اسفه لحالة عدم الاكتراث من قبل العرب الامريكيين لتاريخهم، لقد منعوا من الحفاظ على باقي الابنية الاثرية في شارع واشنطن .

"من المخزي على العرب الأمريكيين ان لا يشاركوا في حفظ وتخليد ذكراهم وأن لا يستخدموا الموقع لتعريف عامة الشعب بتاريخ العرب الامريكيين الطويل في هذا البلد " يتابع السيد بيومي قائلاً: "اعتقد ان اغلب الامريكيين سيندهشون عند معرفتهم بالأفكار المنتجة من الجالية العربية الامريكية لوقت طويل " .

كارل انطون البالغ من العمر 22 عاماً هو طالب جامعي من بروكلين ، صرح بأن جدته ترعرعت في قلب احياء سوريا الصغرى في شارع واشنطن وهي التي أتت عائلتها من لبنان حيث جاءوا إلى الولايات المتحدة هرباً من ظلم الحكم العثماني القاسي الذي دمر تجارة الحرير المحلية التي كانت مفعمة بالحيوية في تلك الفترة وتدر دخلاً جيداً على بلاد الشرق الأوسط.

انشأ العرب في نيويورك منطقة مزدهرة تكسوها الشخصية العربية، الصحف العربية، بقاليات تبيع البهارات والادوات المنزلية، مطاعم ومقاهي بحيث يتبادل رواد هذه المقاهي وجهات النظر السياسية التي غيرت وبشكل سريع وجهة نظر المجتمعات التي كانت تتعامل معهم .

مؤخراً، وعند ازدياد عدد السكان، انتقل العديد من قاطني سوريا الصغرى الى ضواحي بروكلين، وفي عام 1940 هُدمت معظم المنطقة لانشاء نفق رئيسي، اما باقي المنطقة بقيت في حالة يرثى لها حتى عام 1960 حيث تم بناء مركز التجارة العالمي على أنقاضها.

اليوم لم يتبقى سوا ثلاثة ابنية من سوريا الصغرى تجمعت حولها فنادق ومكاتب عالية جداً، حيث يوجد هناك كنيسة الروم الملكيين العربية ،التي تم انشاؤها في المدينة كمعلم تاريخي ،هذه المباني التي كانت يوما مركزاً للمجتمع العربي ولمسكنهم .

تحولت الكنيسة إلى حانة ايرلندية في السنوات الثلاثين الماضية ، لكنها الآن منطقة لتجمع عمال البناء للعمل في الفنادق الشاهقة المجاورة.

السيد اونطون ، الذي ساهم في الحفاظ على شارع واشنطن ،قال انه يأمل بأن يتمكنوا من إقناع المدينة بأبقاء اثنان من الأبنية كمعلم تاريخي يُحتفظ به بعيداً عن الآراء الداعية إلى هدمها كما يوصي ملاكها الأصليين.

حاولت مجموعة الحفاظ على شارع واشنطن ان تجمع مبلغا من المال لشراء هذه المباني وتحويلها الى متحف للحفاظ على التراث العربي ، في حين انهم لم يستطيعو ان يجنوا المزيد من المال من الجالية العربية الامريكية او من الخارج ، وصل الأمر إلى قيام عضو من مجلس المدينة بطلب، ولأول مرة، لعقد جلسة تفاوضية بشأن هذا الموضوع ، لكن اللجنة رفضت ذلك .

عملت المجموعة على ترميم حديقة صغيرة بالقرب من الموقع على امل ان تتحول الى نصب تذكاري للكتاب العرب المشهوريين والمثقفين مثل الريحاني.

"لم يكن لدى العرب الامريكيين أي شيء على الاطلاق بل عاشوا هنا مثلهم مثل اليهود والايطاليين والايرلنديين . بدؤوا بالمجيئ الى هنا من عام 1880" كما قال السيد انطون .

"من المهم جدا ان ننظر الى الماضي" ثم يقول : "ما هذا النجاح الباهر! نحن هنا منذ وقت طويل ونستحق أن يكون لنا مكان في التاريخ ، لذلك هو مهم بالنسبة لي ، انه امر شخصي " .

المصادر:

هنا

هنا

هنا