الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة السياسية

مبادئ الفكر الماركسي (الجزء الثاني)

علمنا في مقالٍ سابقٍ بأنّ المادّيّة الجدليّة أو ما يسمى (الماديّة الديالكتيكيّة) عند ماركس تعني أنّ "المادّة" هي جوهرُ العالمِ، هي جوهرُ كلّ فكرٍ وأخلاقٍ، وأن المادة متغيرة باستمرار وفق جدلية ثابتة. نستكمل في مقالنا هذا استعراض مبادئ النظرية الماركسية ونتحدث فيه عن "الماديّة التّاريخيّة". فماهي المادية التاريخية؟ وماهو صراع الطبقات الذي تميز به الفكر الماركسي؟ وهل فعلا سينهار النظام الرأسمالي كما حتّم عليه ذلك ماركس؟ إليكم هذا المقال.

قصد ماركس بالمادّية التاريخية، عمليّة اسقاط المادّيّة الجدليّة على التاريخِ، أي دراسة الحياة الإجتماعيّة عبر التّاريخ، إذ رأى أنّ تطوّرَ المجتمعِ مقرونٌ بأسلوبِ الإنتاجِ المتّبع في مجتمعٍ من المجتمعات، وأيضاً مقرون بتنظيمه الإقتصاديّ، حيث أنّ جميعَ الأوضاعِ الإجتماعيّة والسّياسيّة والقانونيّة والفلسفيّة تتشكّل وتُفهم من خلالِ تأثيرِ العوامل الماديّة والإقتصاديّة عليها.

رأى ماركس أنّ الدّراسة التّاريخيّة للمجتمعِ تكشف لنا عن خمسةِ أشكالٍ متعاقبةٍ لأساليبِ الإنتاجِ هي: المشاعية البدائية – العبودية –الإقطاعية – الرّأسماليّة - والشيوعية. كل من تلك الأساليب الخمسة يحدد شكل المجتمع المرافق وتوزع الثروة والسلطة فيه.

واستناداً لما ذكرناه سابقاً عن قانون "نفي النفي" عاد ماركس ليؤكّد بأنّ كلّ نظامٍ اجتماعيّ يحمل في داخله عواملَ هدمِه، ففي كلّ نظامٍ تنشأ قوى تناهضه وتقاتله حتّى تقضي عليه وتُزيله، وتُنشئ مكانه نظاماً جديداً، وفي هذا النّظام الجّديد تنشأ قوى جديدة تناهضه حتّى تقضي عليه، وهكذا يستمرّ التّاريخُ بتقديمِ نظمٍ اجتماعيّةٍ جديدةٍ على شكلِ حلقاتٍ متّصلةٍ قائمةٍ على (التّناقضِ) ومتبلورة حول مبدأ (الصّراع) بين الطبقات. في هذا السياق تجدر الإشارة إلى أنّ أهم نقد وجّه إلى المادّيّة التّاريخيّة هو أنّ الديالكتيك عند ماركس توقّف فجأة عند المجتمع الشيوعي. وهذا التوقّف ليس له مبرر طالما أنّ الحركة عنده في حالةِ سيرورةٍ مستمرّة تعمل على تقديمِ كلّ جديد.

الصراع الطبقي:

وجدَ ماركس أنّ كلّ مجتمعٍ نشأ قديماً ومازال يستحيل لأنظمةٍ مختلفةٍ، هو ليسَ إلّا نتيجةٌ حتميّةٌ لتاريخِ الصّراعِ بين الطّبقاتِ، فالصّراعَ الطّبقي هو محرّكُ التّاريخِ لِمَا يشتمله من عنصرين أساسيين هما طبقةٌ حاكمةٌ مُستغِلّةٌ وطبقةٌ محكومةٌ مُستغَلّة.

هذا الصّراعُ نشأ منذ أن زال نظامُ الملكيّةِ المشاعيّة للأراضي الزّراعيّة وحلّ محلّه نظامُ الملكيّةِ الفرديّةِ، وبالتّالي ظهور نزعةٌ بشريّةٌ تميلُ للحصولِ على المزيد ولو على حساب مصلحةِ الآخرين.

إنّ نظام الملكيّةِ الفرديّة ساهمَ بظهورِ طبقتين اجتماعيتيّن متصارعتين هما فئةُ الأحرارِ وفئةُ العبيد، فئةُ من يملك ويسيطر ويضّطهد وفئةُ من لايملك ويقاوم ويناضل. واستمرّت حالة الصّراع هذه حتّى تمّ القضاء على أسسِ النّظام القديم ونشأ محلّه النّظام الإقطاعيّ، متمثّلاً بالصّراعِ بين مالكي الأراضي والفلاحين، وعندما قُضيَ عليه حلّ محلّه النّظام الرّأسماليّ البرجوازيّ الذي شهد صراعاً بين الطّبقة البرجوزايّة وطبقة البروليتاريا.

إنّ هذا النّظام (الرّأسماليّ) بيّن بوضوحٍ وجود شرخ في المجتمعِ وظهور طبقتين متمايزتين متصارعتين، أي أنّه رسّخ حالةَ الإنشقاقِ والتفتّت المجتمعيّ وما نتج عنه من حاجةٍ للقضاءِ عليه وإحلال محلّه نظاماً قائماً على الملكيّة الجماعيّة ومن هنا كان النّظام الشّيوعيّ.

رأى ماركس أنّه في هذا النّظام سوف تلتغي الطّبقات ولا يعود هناك إلّا طبقة واحدة تعمل من أجل الصّالح العام، سوف تُسلب السّلطة السّياسيّة من يدِ الرّأسماليّة، وتُنزَع الملكيّة الفرديّة وتتحوّل لملكيّةٍ جماعيّة، وأنّ الدّولة سوف تفقدُ مبررَ وجودها طالما أنّها كانت تُستخدَم في السّابق كأداةٍ للسّيطرةِ على طبقاتٍ أخرى لكن في النّظام الشّيوعيّ الّذي لا يضمّ طبقاتٍ متعددةٍ فالدّولة لن يكون لها داعي.

فائض القيمة وتراكم رأس المال:

تعرّض ماركس في كتاباته لعلمِ الإقتصادِ، بهدفِ إثباتِ تناقضات النّظام الرّأسماليّ وحتميّة زواله. إذ رأى بأنّه قام على أنقاضِ النّظام الإقطاعيّ ونتيجة ظهور الإختراعات الجّديدةِ واتّساعَ الأسواقِ وإحلالَ الآلاتِ محلّ الأدوات البسيطة، كلّ هذا كان من شأنه إحداث تغييرٍ في أسلوبِ الإنتاجِ، وبالتّالي ظهورُ طبقة جديدة من المنتجين والصّناعيين والرّأسماليين الّذين استطاعوا السّيطرة على الحياةِ الإقتصاديّة واستغلال الطّبقة العاملة.

وهذه النّشأة وهذه السّيطرة ما كانت لتتمّ لولا تراكم رؤوسَ الأموالِ بيدِ هذه الطّبقة البرجوازيّة الصّغيرة. ولكن كيف يحدث تراكم رؤوس الأموال من وجهةِ نظر ماركس؟ اعتمدَ ماركس في دراستِه لأصولِ تراكم رأس المال على عدّة نظريّاتٍ منها:

- نظريّةُ "قيمةُ العملِ" للإقتصاديّ الإنكليزيّ ريكاردو الّذي قال بأنّ قيمةُ أي سلعةٍ نحدّدها بمقادرِ ما بُذلَ عليها من جهدٍ وعملٍ مباشر وغير مباشر. تبنّى ماركس هذه النّظرية وأضاف بأنّ قيمةَ أيّ سلعةٍ تتحدّد بعددِ السّاعات الّتي بُذلًت في صنعها.

- أيضاً نجد تأثّره بنظريّة "قانون الأجر الحديديّ" الّذي صاغه كل من مالتوس وريكاردو، والّذي يقولُ بأنّ ما يعطيه ربُّ العملِ للعامل من أجرٍ لايعدو أن يكونَ سوى القدر الّلازم لبقاءِ العامل على قيدِ الحياة، وأنّ العامل يبيع قوّة عمله مقابل حصوله على ما يكفي لتجديد قوة عمله من جديد.

- من ثمّ راحَ ماركس يفتّش عن الأسلوبِ الّذي يتّبعه الرّأسماليون بهدف زيادة ربحهم، فتوصّل لنظريّة "فائض القيمة"، تقولُ هذه النّظريّة أنّ الرّبح الّذي يحقّقه صاحبُ العملِ هو الفرقُ بينَ أجر العامل والّثمن الّذي يبيع فيه السّلع.

إنّ اعتماد الرّأسماليين على هذه النّظريات الثلاث ساهم في تركيز رأس المال بيدهم دون غيرهم، وزيادة أرباحهم، وعُرِف هذا الاٍتجاه بقانون "تراكم رأس المال"، وإنّ استمرارَ هذا التّراكم سيحوّل صغار المُنتجين إلى عمّال وهكذا سيتضخّم أفراد القوّة العاملة وبالتالي تفاقم مشكلة البطالة وهذا ما أسماه ب "قانون تحوّل الغالبيّة إلى عمّال".

حتمية الثّورة وانهيار النظام الرأسمالي:

استكمالاً لنظريّة ماركس حول "تحوّل الغالبية إلى عمّال" يرى بأنّ استمراريّة هذه العمليّة ستجعل سوق العمل يشهد المزيد من العاطلين عن العمل الذين سيؤلفون مايُعرَف باسم "الجّيش الصّناعيّ الإحتياطيّ"، هذا الجّيش سيكون أداةً في يدِ الرّأسماليين لفرضِ أجورٍ منخفضةٍ على العاملين، وإنّ أية محاولة منهم للتململ أو الإعتراض سيقابلها الرّأسماليون بطردهم من عملهم واستبدالهم بذلك الجّيش الإحتياطيّ الذي سيقبل بالأجور المنخفضة لأنّها أفضل لديهم من لاشيء.

استمرارُ عمليّة الاستغلال والخضوع ستخلق لدى العاملين وعياً بواقعهم المشؤوم وسينشأ عندهم ما أطلق عليه ماركس "بالوعي الطبقي"، هذا الوعي سيجعلهم يدركون أن لا سبيل للانعتاق من الاستغلال سوى باتّحادهم وتنظيم أنفسهم ضمن نقابات ثورية تجعل منهم قوّة منظمة وتمنعهم من استخدام الجّيش الإحتياطيّ وذلك تمهيداً لإقامة ما يدعى بـ "دكتاتوريّة البروليتاريا" .

وعليه نجد بأنّ اشتراكيّة ماركس تمحورت حول الإيمان بحتمية الثّورة وتجميع القوى العاملة لما في ذلك من خيرٍ لهم، وسبيلاً للوصول إلى الشيوعيّة المنشودة. هذا كان عرضا سريعا لاهم مبادئ و مرتكزات الفكر الماركسي و التي كثيرا ما نسمع عنها ويحاول فهمها أو يساء. وسواء وافقنا ماركس في أفكاره إلا أنه أورد مدرسة متكاملة الصياغة ومُحكَمة الركائز.

المراجع:

- جوزيف ستالين: المادّية الديالكتيكيّة والمادية التاريخية، 1938.

- علي عبد المعطي محمد: الفكر السياسي الغربي، دار الجامعات المصرية، الاسكندرية،1975