التاريخ وعلم الآثار > تحقيقات ووقائع تاريخية

كارثة السفينة البيضاء هل كانت حادثاً مدبراً أم كانت قضاءً و قدرأ؟! الجزء الأول

يقال أنه ما من جريمة كاملة و أن مرتكب أي جريمة لا بد له من العودة إلى مكان الجريمة يوماً، فهل يا ترى هذا هو الحال بالنسبة لكارثة السفينة البيضاء؟ و هل كانت فعلاً جريمةً جماعيةً؟ أم أنها كانت مجرد قضاء و قدر؟ و لو اعتبرت أنها جريمة فكيف استطاع مرتكبها تنفيذها بدقة تجعل على أقل تعبير كل من عرف بها يشكك فيما إذا كانت جريمةً أم قدراً؟ إذاً هل تعارض كارثة السفينة البيضاء مقولة ما من جريمة كاملة؟ هذا ما رواه المؤرخون و نترك الحكم لكم في هذا المقال.

لربما كانت أسوأ كارثة بحرية في العصور الوسطى، ليس لأن الثمن كان خسارة ثلاثمئة إنسان فحسب، بل لأن أحدهم كان الوريث لامبراطورية الانجلو نورمان. فقد كانت نظرية أحد الباحثين ترى بأن حادثة غرق السفينة البيضاء التي وقعت في ليلة 25 نوفمبر، عام 1120 لم تكن مجرد حدث مأساوي، بل كانت بالأحرى قضية لجريمة قتل جماعية .

في عام 1120 كان الملك هنري الأول في ذروة مجده، فقد كان ممسكاً بزمام الأمور في كل من انكلترا و بلاد النورماند و ذلك بعد أن هزم وسجن أخاه روبيرت كورثوس، و بعد أن قضى على عدد من البارونات المتمردين .

كما نجح في إقناع الملك الفرنسي بالاعتراف بابنه الأمير ويليام كوريثه الشرعي و دوقاً لبلاد النورماند.

كان للملك هنري اثني عشر طفلاً على الأقل، كان اثنان منهم فقط من زوجته الاسكوتلاندية ماتيلدا، وهما ابنته التي تحمل نفس الاسم أيضاً ماتيلدا وابنه ويليام، أما باقي أطفاله فقد كانوا من عشيقاته، لكن هنري و بالرغم من ذلك كان يعامل أبناءه وبناته غير الشرعيين معاملةً حسنة ويمنحهم مناصب مهمة في حكومته .

باعتبار ويليام الابن الشرعي الوحيد، فقد كان المرشح لوراثة مملكة والده، وحسب الاتفاق الأخير الذي تم بين هنري و الملك الفرنسي، بالإضافة إلى زواج وليام من الابنة الكبرى للكونت فولك الخامس قبل عام، فقد بدا من الواضح بأن الأمير ويليام لن يواجه أي عقبات في وراثة امبراطورية الانجلو نورمان .

في نوفمبر عام 1120، كان الملك هنري و حاشيته ( بما فيهم ابنه ويليام ) يستعدون للإبحار من بلاد النورماند إلى انكلترا، و قد كان هنري عادةً ما يجتاز القناة البحرية الانكليزية (و هي قناة بحرية تصل بين جنوب انكلترا وشمال فرنسا) بالرغم من أن عبور القناة لم يكن في معظم الأحيان سهلاً أو آمناً. تم تجميع الأسطول في ميناء بارفلور النورماندي، وفي 25 من شهر تشرين الثاني كانت الرياح مناسبة للقيام بالرحلة. و في تلك الأثناء اقترب رجل من الملك هنري الأول يدعى "توماس فتس ستيفين" وقال له: (لدي سفينة جديرة للقيام بهذه الرحلة تدعى بالسفينة البيضاء، و على أتم الاستعداد للخدمة الملكية) .

وأضاف بأن جده ايرارد قد خدم والد هنري (ويليام الأول)، و ذلك عندما قام بحمل الدوق النورماندي عبر القناة الانكليزية أثناء غزوه لانكلترا في العام 1066، و قد رغب توماس حينها بنيل شرف نقل الملك في السفينة الجديدة كما حدث مع جده سابقاً.

فأجابه هنري: "لقد نال طلبك قبولي، فقد كنت في الحقيقة قد اخترت سفينة رائعة لنقلي في هذه الرحلة و لا أنوي تغييرها، و لكنني أودع لديك ابناي ويليام و ريتشارد الذين أحبهما أكثر من نفسي، كما أودع لديك العديد من نبلاء مملكتي أيضاً".

و عندما بدأت رحلة الملك بالإبحار، صعد ابنه ويليام و آخرين إلى السفينة البيضاء، و يبدو أن العديد من النبلاء رجالاً و نساءً كانوا قد استغلوا فرصة السفر هذه بمعزل عن نظرات الملك هنري الصارمة. و كان من بين أولئك الذين صعدوا إلى السفينة اثنان من الإخوة غير الأشقاء لويليام هما ريتشارد و ماتيلدا. و قد أشار أحد التقارير بأنه كان على متن السفينة ما يقارب ثلاثمئة شخص من ضمنهم خمسون شخصاً من طاقم السفينة الذي كان يشرف على عملية التجديف.

و سرعان ما تم تقديم النبيذ مجاناً للركاب و لأفراد طاقم السفينة أيضا، و في تلك الأثناء قرر بعض المسافرين النزول من السفينة، فبحسب المؤرخ اورديرك فيتاليس "أولئك الذين قرروا النزول من السفينة أدركوا وجود حشد كبير جداً من الشبان الهمجيين على متنها" و كان من ضمنهم ستيفين، كونت مدينة بلوا، الذي قال بأنه كان مريضاً جداً، و يعاني من الإسهال مما سيجعل القيام بهذه الرحلة صعباً عليه.

ويذكر المؤرخ أورديرك فيتالس في ملاحظاته "جاء الكهنة مع الوزراء حاملين الماء المقدس لمباركتهم، فضحكوا و أبعدوهم بطريقة سيئة وقد تعالت أصوات قهقهاتهم" ومن ثم طلب وليام والركاب من قبطان السفينة توماس الانطلاق بالسفينة و التأكد فيما إذا كانت السفينة سريعةً بما يكفي للّحاق بقارب الملك .

كان الوقت حينها قبل منتصف الليل.

يروي أورديرك ما حدث :

"بعد طول انتظار أعطيت إشارة الإبحار، و بدأ طاقم التجديف بالعمل بسرعة و بمعنويات عالية دون أدنى علم عما كان يخبئه القدر لهم .وتم وضع ما تبقى من معدات السفينة على أهبة الاستعداد واندفعت السفينة إلى الأمام مبحرةً عبر المحيط و مسابقةً أمواجه في المضي قدماً. و بينما كان المجدفون الثملون يجدفون بكل قواهم و بينما كان ربان السفينة التعيس لا يعير أي اهتمام لمقود السفينة و توجيهها فقد اصطدم جانب السفينة البيضاء بعنف بصخرة ضخمة، فانحصر المد وغطت المياه مكان اصطدام السفينة بالصخرة، وتحطم اثنين من الألواح الضخمة، وبدون سابق إنذار انقلبت السفينة، ففزع وبكى الجميع لهول الخطر الذي يعيشونه، و بدأت المياه بالتدفق إلى السفينة وراحت صرخات المستغيثين تغرق معهم إلى أن لقوا حتفهم جميعاً ".

لابد من أن المشهد كان مرعباً، مئات من الناس قد ألقوا في البحر، والقليل منهم من كان يجيد السباحة. وعلى الرغم مما تناقلته بعض الروايات من أن المياه كانت هادئةً آنذاك إلا أن تلك الليلة كانت ليلةً حالكة الظلمة (فقد كان القمر آنذاك أقل من ربع حجمه في ليلة القمر البدر). لقد طرقت مسامع الناس على الشاطئ و حتى أولئك الذين كانوا في مركب الملك هنري صرخات الغرقى من السفينة إلا أنهم لم يستطيعوا تحديد مصدر تلك الصرخات.

ووفقاً لأحد التقارير فقد استطاع ويليام حينها الصعود على متن قارب صغير و الابتعاد شيئاً فشيئاً، إلا أن أصوات صراخ أخته غير الشقيقة ماتيلدا جعلته يعود أدراجه بالقارب و ما أن وصل إليها حتى بدأ الغرقى اليائسون بالصعود على متن القارب الصغير مما أدى إلى تحطمه و غرقه.

و بعد أن هدأت صرخات الموت، كان شخصان من المسافرين على متن السفينة قد تعلقوا على سارية السفينة البيضاء، وهما شاب من النبلاء يدعى جيفري ليغل وجزار من رووين يدعى بيرولد .صعد حينها ربان السفينة توماس على سطحها وسألهما: "ما الذي حل بابن الملك؟" و عندما أخبروه بمصير الأمير أجاب توماس: "لا فائدة من حياتي بعد الآن" و رمى بنفسه إلى البحر .

أثناء الليل لم يستطع الشاب جيفري الصمود معلقاً فترةً أطول من ذلك فرمى بنفسه في الماء، تاركاً بيرولد وحيداً على قيد الحياة. وصلت فرقة الإنقاذ في الصباح عندما جاء الصيادون المحليون إلى مكان وقوع الحادثة. و خلال السنوات التالية أخذ الجزار يروي كيف كان هو الناجي الوحيد من كارثة السفينة البيضاء.

بعد عدة أيام عثر على بعض الجثث مرميةً على الشاطئ، لكن جثة الأمير ويليام لم يعثر لها على أثر. وانتشرت في انكلترا شائعات كثيرة عن وقوع الكارثة، إلا أن أحداً لم يجرؤ أن يخبر الملك، أخيراً، تم إرسال صبي صغير إلى الملك هنري ليكشف له حقيقة ما حدث، انهار الملك إثر سماعه بالخبر وبكى بكاءً مريراً على أبنائه و أتباعه الذين لقوا حتفهم .

المصدر

هنا