كتاب > روايات ومقالات

اسم الوردة

كل الأشياء تندثر ولا يبقى منها إلا الأسماء. هكذا يهيّئ الكاتب أمبرتو أيكو ختام روايته اسم الوردة والّتي كتبها عام 1980، لتكون بذلك أولى رواياته. كتب أمبرتو إيكو الفيلسوف والباحث الإيطالي (مواليد عام 1932) هذه الرّواية لتجمع بين فنون التخييل التّاريخي واللّغز البوليسي، إضافةَ إلى بعدٍ فلسفيٍّ واضح جدّاً، يجعل هذه الرّواية عملاً أدبيّاً فنيّاً، وليس مجرّد كتاب تشويقيّ آخر.

تجري أحداث الرواية في دير في شمال إيطاليا عام 1327، وتبدأ بوصول الراهب الفرانسيسكاني الانكليزي وليام أوف باسكرفيل (وليام أو جيّوم بالإيطاليّة) ومرافقه أدسو (راوي الحكاية) الى الدير المذكور تحضيراً لأعمال اجتماع من المزعم عقده بين ممثلين عن الرهبنة الفرنسيسكانية وممثلين عن الباباوية للوصول الى إجماع بخصوص قضية الفقر في الكنيسة: هل يحق لرجال الدين اكتناز الأموال وإنفاقها ببذخ أم يجب أن تكون الكنيسة فقيرة؟

يستغل رئيس الدير وصول وليام المشهور برجاحة عقله ودقة ملاحظته ليسأله العون في إيجاد حل لجريمة قتل غامضة حصلت في الدير. ولكن الجريمة تتحول، بعد وصول وليام، إلى سلسلة جرائم، مثيرة للرعب بين نزلاء الدير من الرهبان، واضعة المزيد من الضغط على وليام لحل هذا اللغز قبل حصول الاجتماع الهام بين ممثلي الرهبنة الفرنسيسكانية وممثلي البابا.

تحمل هذه الجرائم علامات من الكتاب المقدس من سفر رؤيا يوحنا، استعارة يعرضها الكاتب بخفة غير مقرونة وبمهارة لا توصف.

تجري جميع هذه الجرائم و الأحداث في مبنى دير يصفه إيكو بإسهاب في أول الرّواية، ويملك هذا الدير مكتبة شهيرة هي الأكبر بين مكتبات العالم المسيحي، لكن لا يسمح لأي كان بقراءة كتبها النفيسة أو الاطلاع عليها.

يبدأ وليام محاولاته في حل اللغز بالتعرف أكثر على الدير ونزلائه ويحاول الدخول إلى المكتبة الحصينة المبنية على شكل متاهة لا يعرف طرقها إلا أمينها. يبدع أمبرتو إيكو في وصف حياة الدير في ذلك الزمان ويمرر على لسان أشخاص روايته حوارات فلسفية دينية عن القضايا الشائكة في ذلك العصر فينتقل من الفرق الهرطوقية في المسيحية إلى محاكم التفتيش إلى فقر الشعب واستغلال رجال الكنيسة لهم وحتى المواجهة الأزلية بين دعاة التفسير الحرفي للكتب المقدسة ودعاة تحكيم العقل في فهم هذا العالم وما يحيط بنا.

في خضم كل هذه الحوارات العميقة والأحداث المتلاحقة تظهر فتاة مجهولة الاسم لتمنح راوي القصة أدسو لحظات مقدسة من الحب يظل محتفظاً بها لنهاية أيامه، و التي وعلى الرّغم من دورها الثانويّ، إلا أنها مثّلت بشكل ما طبقات الشعّب والعوام الفقيرة و الّتي يُنظر إليها باحتقار، وهي في نفس الوقت كبش فداء المحرقة لأخطاء الآخرين من السّلطة الدّينيّة أو الدّنيويّة.

تتوازى الأحداث في الرّواية على ثلاث محاور رئيسيّة، الأول هو محور الجرائم المتتالية الحاصلة في الدّير، والثّاني هو محور المناقشات اللّاهوتية الدّينيّة التّاريخيّة، والممهدّة لتشاور كلّ من الطّرفين المجتمعين في الدّير (الفرانسسكانيين و البابويين)، أما الثالث فهو المحادثات الدّينية الفقهية بين الطالب وأستاذه جيّوم (بالإيطاليّة) أو ويليام في النّسخة الإنكليزيّة.

كان من المهم ربط الحوارات والمحاور ببعضها ضمن شبكة الجرائم المشوّقة، فالإطار اللّغز لهذه الرّواية، يؤطّر أيضاً ألغازاً فلسفيّة بحدّ ذاتها، حيث يبدو الكتاب باحثاً في الشخصيّات الإنسانيّة كما في القضايا الفكرية، والشخصيّة الأكثر غموضاً هي المكتبة الّتي تخبّئ الحقيقة بل وتحملها في ذاتها، ربّما لأنّ بطل الرّواية الحقيقي هو الكتاب والمكتبة.

كتب أمبرتو إيكو الرّواية بذكاء منقطع النظير، وتناولت حواراته الدينية/التاريخية التحقيقيّة قضايا أكبر منها، فهي تناقش أولاً قضية الفقر والغنى، كما تناقش قضايا التشريع الدنيوي والديني. تناقشها من خلال حوار وليام مع طالبه أدسو أو مع رئيس الدير، أو بين الوفدين المتقابلين في الدّير مسرح هذه الجرائم. حيث يتناول أمبرتو إيكو أولا قضية التّشريع الديني على لسان بطله ويليام في الحوار مع أدسو قائلاً: "ولكن القضية ليست إن كان المسيح فقيراً، ولكن إن كان يجب أن تكون الكنيسة فقيرة، وفقيرة لا يعني امتلاك الكنيسة لقصر أم لا، بل الاحتفاظ أو الامتناع عن حق التشريع في الأمور الدنيوية" كما يبرّر في حوار آخر مع رئيس الدّير اتباع العامّة أو الفقراء لكثير من الانتماءات اللامعقولة، راداً إيّاه إلى الجهل، قائلاً: "إن حياة العامة يا أبون، لا يضيئها نور المعرفة، ولا يقودها إدراك الفارق الذي يجعل مننا نحن عقلاء، ويرهقها هاجس المرض والفقر، الذي يجد التعبير عن طريق الجهل. غالباً ما يكون الانتماء بالنسبة إلى الكثير منهم وسيلة فقط مثل غيرها للتعبير عن اليأس".

على محور آخر، تشغل قضيّة المعرفة الجزء الأهم من الحوارات المتعلّقة بالجريمة، حيث أنّ ماهيّة المعرفة ليست واحدة بالضّرورة بل هي فكرة، أمّا العلم فهو باحث عن الحقيقة الفريدة عن طريق صورتها، نقرأ هذا أيضاً على لسان ويليام "بالتأكيد ليس للأثر دائماً شكل الجسم نفسه الذي رسمه، ولا يولد من ضغط الجسم، إنه يولد أحياناً انطباعاً عن جسم تركه في فكرنا، إنه أثر لفكرة والفكرة دلالة على أشياء، والصورة دلالة لفكرة، ودلالة الدلالة، ولكن من خلال الصورة، أستعيد إن لم يكن الجسم الفكرة التي حصل عليها منه الآخرون. إن العلم الحقيقي يجب ألا يرضى بالأفكار التي هي دلالات بالذات، ولكن عليه أن يجد الأشياء ثانية، في حقيقتها الفريدة." هذه الحقيقة الفريدة أعطت الرّواية نوعاً ما اسمها، فاسم الوردة ليس إلّا إشارة إلى المعرفة أو اسم المعرفة، حيث "قال الله لآدم أن لا يأكل من شجرة الخير و الشر، و تلك هي الشريعة الإلهية، ولكنه سمح له فيما بعد، شجعه لكي يعطي الأسماء للأشياء، وفي هذا الشأن ترك الحرية لعبده الدنيوي، والواقع، رغم أن البعض في عصرنا هذا يقول إن: الأسماء تأتي من الأشياء، فإن سفر التكوين واضح في هذه المسألة: لقد قدم الله للإنسان كل الحيوانات ليرينا كيف يسميها، وكيفما يسمي الإنسان كلاً من المخلوقات الحية، فإن ذلك الاسم يجب أن يكون اسمه، وإذا كان من المؤكد أن الإنسان الأول كان مدركاً، بحيث سمّى في لغته الفردوسية كل شيء وكل حيوان حسب طبيعته، فإن ذلك لا يعني أنه لا يمارس أي نوع من الحقوق المطلقة في تصوره للاسم الذي يناسب تلك الطبيعة بشكل أفضل حسب رأيه، وذلك بالفعل، أنه يعرف كم هي مختلفة الأسماء التي يفرضها البشر للدلالة على المفاهيم وأن المفاهيم وحدها وهي دلالات للأشياء هي واحدة بالنسبة للجميع."

تتابع الأحداث و الحوارات حتى ينكشف القاتل آخر الرّوايّة، لنرى أن قطبي الرّواية (الدّيني و الدّنيوي) يلتحمان في النهاية، والبطل الحقيقي إنما هو كتاب! بالطّبع لا نستطيع قول لم كان البطل هذا الكتاب بالذّات، حيث متعة اكتشاف هذا هي ملك القارئ الآن.

لا يستطيع المرء مع ذلك تجاهل الإشادة مرّة أخرى بعبقرية إيكو وبفنّه الرّوائي، حيث أنّ ذورة الأحداث والكشف عن الجرائم، تترافق أيضاً مع ذروة حواريّة وحبكة ماكنة تضمّ لبّ الحوار، ولبّ المشكلة. فالفقر و الغنى، كما التّشريع الدّيني و الدّنيوي، وبالنّظر إلى كل ثنائية منهما كقطبين مجرّدين، نستطيع رؤية ثنائية الله والشّيطان. لكن من هو الله ومن هو الشّيطان؟ ماذا عمن يحاول إخفاء الحقيقة إيماناً منه أنّ هذا هو الحق؟ ومن هو الذي يستطيع أن يقول حقاً أنّ هذه هي إرادة الله؟ ربما هو كما يرد في هذا الحوار بين ويليام وغريمه هذه المرّة: "نعم لقد كذبوا عليك، الشيطان ليس أمير المائدة، الشيطان هو صلف الفكر، هو الإيمان دون ابتسام، الحقيقة التي لا يعتريها الشك، الشيطان قائم لأنه يعرف أين يذهب ، ويذهب دائماً إلى المكان الذي ينطلق منه، أنت الشيطان، والشيطان يعيش في الظلمات. وهذا الكتاب كان سيبرر فكرة أن لغة البسطاء تحمل بعض الحكمة، هذا ما كان ينبغي منعه، وهذا ما فعلته، أنت تقول أنني الشيطان، ليس صحيحاً، لقد كنت يد الله،. إن يد الله تخلق ولا تخفي. لو الآن أقول لكم أنا إن الله في ممكنات النشوة اللامتناهية يسمح لكم أن تتصوروا عالما، لا يكون فيه مترجم الحقيقة المزعوم إلا شحرورا أبله يعيد كلمات حفظها منذ زمن طويل."

بالنّهاية لا مجال لعرض كل الحوارات الجميلة الدّائرة في هذه الرّواية، وعلى الرّغم من أنّ الفيلم المأخوذ عن الرّواية، والحامل لنفس اسمها (اسم الوردة)، من الأفلام الجيدة والّتي ينصح بهاـ إلّا أن الرّواية عالمٌ جميلٌ متكاملٌ بحدّ ذاته، و كتاب نصح بقراءته بشدّة.

"الخير بالنسبة لكتاب هو أن يقرأ، الكتاب يتضمن دلالات و هذه تتحدث عن دلالات أخرى تتكلم بدورها عن أشياء، و بدون العين التي تقرأه يبقى الكتاب حاملا لدلالات لا تنتج مفاهيمها، وإذاً فهو أخرس"

عنوان الكتاب: اسم الوردة

الكاتب: أمبرتو إيكو

ترجمه للعربية: أحمد الصمعي

دار النشر: دار أويا

عدد الصفحات: 572 قطع كبير

الترقيم الدولي: 8845207005