الفيزياء والفلك > علم الفلك

ثقبٌ أسود هائل وسحيق يمكن أن ينسف نظرية تطوُّر المجرّات

اكتشف فريقٌ دولي من الباحثين ثقبًا أسودَ هائلاً ضمن مجرةٍ عاديةٍ ( نموذجية ). ضمَّ الفريق باحثين من كلٍّ من جامعة يال Yale، ومعهد علم الفلك ETH في زيوريخ، ومعهد ماكس بلانك في ألمانيا، وجامعة هارفارد، وجامعة هاواي، والمرصد الفلكي في إيطاليا، وجامعة أوكسفورد. و قد استعان الباحثون بمقراب (تلسكوب) Keck I الموجود في مرصد W. M. Keck بهاواي، و الذي يبلغ قطر مرآته 10 أمتار. كان الفريق يؤدي أعمالاً اعتيادية ضمن برنامجه لالتقاط الثقوب السوداء الهائلة السحيقة، عندما فاجأهم وجود ثقبٍ أسود بهذه الكتلة الهائلة، و التي تصل إلى سبعة مليارات ضعف كتلة الشمس، الأمر الذي يضعه في مصافِّ الثقوب السوداء الأضخم التي اكتشفت حتى الآن. و لأن المجرة التي وُجد فيها هي مجرةً عاديةً تمامًا من حيث حجمها، فإن ذلك يستدعي إعادة النظر في الافتراضات السابقة حول نشوء وتطور النجوم.

كشفت البيانات عن وجود هذا الثقب الأسود في مجرة CID-947 التي تبعُد 11 مليار سنةٍ ضوئيةٍ عنَّا، و قد استخدم العلماء مرصد Keck في هاواي، ومرصد تشاندرا Chandra للأشعة السينية التابع لوكالة الفضاء والطيران الوطنية NASA، والمركبة الفضائية XMM-Newton التابعة لوكالة الفضاء الأوربية. جُمعت البيانات في Keck عبر أحدث أجهزته المركّبة، و المسمى MOSFIRE، و هو راسم طيف spectrograph. وقد أصبح العلماء قادرين بفضله على رصد هذا الثقب الأسود وتشخيصه عندما كان عمر الكون ملياري سنةٍ ( يقدّر عمر الكون بأربعة عشر مليار سنةٍ منذ الانفجار الكبير ). تُعزى هذه الدقة العالية إلى الحساسية الفائقة لراسم الطيف MOSFIRE إضافةً لقدرات المقراب الأكبر في العالم، والذي يعمل ضمن مجالي الضوء المرئي و الأشعة تحت الحمراء.

ما أدهش العلماء أكثر هو الكتلة العادية للمجرة الحاوية له، إذ تضم معظم المجرات ثقوباً سوداء لا تتعدَّى كتلتها واحد بالمئة من كتلة المجرة المُضيفة، أما في حالة المجرة CID-947 فقد وصلت كتلة الثقب الأسود إلى حدود العشرة بالمئة من كتلة المجرة، فاستنتج الفريق أن الثقب الأسود قد نما وتضخَّم بسرعةٍ كبيرةٍ لدرجة أن المجرة لم تملك القدرة على مجاراته. لكن أمراً كهذا يجعل العلماء يعيدون التفكير فيما استقرَّ في أذهانهم عن التطور المتواكب للمجرات والثقوب السوداء التي تنشأ في مراكزها.

ما هي الثقوب السوداء:

الثقوب السوداء هي أجرامٌ ذات قدرٍ عظيمٍ من قوة الثقالة، الأمر الذي يحول دون قدرة أي شيء على الإفلات منها، حتى الضوء لا يستطيع الإفلات منها. و قد وصفت النظرية العامة للنسبية التي وضعها أينشتاين الكيفية التي تحني بها هذه الأجرام المكان والزمان(الزمكان space-time) في جوارها، و بذلك ينشأ الشدُّ الثقالي لهذه الأجرام. و يُستدلُّ على وجود هذه الأجرام من خلال التسارع الكبير الذي تُعانيه المادة الخاضعة لقوة ثقلها، فتصدر عن هذه المادة إشعاعاتٌ عالية الطاقة.

نشوء المجرات وتطوُّرها:

تتكون المجرات من النجوم والغاز والغبار والكثير من المادة المظلمة dark matter، و تتضمن الفيزياء التي تدرس تكوُّن النجوم العديد من المواضيع. فالعلماء بحاجةٍ إلى فهم التأثير الثقالي المتبادل والتحريك الحراري thermodynamic للغاز وتوليد الطاقة في النجوم. فعلى سبيل المثال، تتكون النجوم من الغيوم الغازية، لكن وجود النجوم الوليدة سيزيد من الحرارة في هذه الغيوم، فتتبدَّد، الأمر الذي يحول دون نشوء نجومٍ جديدةٍ.

وتسود بين العلماء نظريتان تشرحان الكيفية التي تتشكل بها المجرَّات الأولى في الكون. تُشير النظرية الأولى إلى أن المجرَّات تشكَّلت عندما انهارت الغيوم العملاقة المكوَّنة من الغاز والغبار على نفسها بفعل الشدِّ الثقالي لها، مُطلقةً عملية تكوُّن النجوم. بينما تَعتبر النظرية الثانية أن الكون في طفولته، أي في أيامه الأُوَلى، كان حاويًا على العديد من الكُتَل lumps الصغيرة من المادة، و قد استطاع المقراب (التلسكوب) الفضائي هابل أن يصوِّر عددًا من هذه الكُتَل، التي قد تكون أسلافَ المجرَّات الحديثة. وما إن تشرع هذه الكُتَل بالتجمُّع تحت تأثير ثقالتها حتى تتكوَّن المجرَّة البدائية protogalaxy، التي تكون خاليةً من النجوم. و برغم خلوِّها من النجوم إلا أن رصدها ممكن عن طريق مراقبة الأشعة تحت الحمراء (أي الحرارة) الصادرة عنها، غير أن الأدوات التي نملكها في أيامنا لا تتيح لنا القدرة على رصد هذه البدائيات الواهنة. ويُعتقد أن أول مجرَّةٍ بدائيّة تشكَّلت قبل أربعة عشر مليار سنةٍ خلت.

تلقَّت النظرية الأخيرة دعمًا خلال السنوات الأخيرة. و وفقًا لهذه النظرية تكون المجرَّات الكبيرة والقديمة من النوع الحلزوني spiral، لكن العديد من هذه المجرَّات اندمجت مع بعضها على مرِّ الزمن [المزيد عن اندماج المجَّرات في المقال هنا ]، مُشكِّلةً مجرَّاتٍ قطعية ellipticalأي لها شكل القطع الناقص.

تمتلك المجرَّات كتلًا هائلة، لذا فإنها تمتاز بثقالةٍ كبيرة، وهذا يسمح بوجود ثقبٍ أسود في مراكزها. وتشير الأرصاد أنه كلما كان عدد النجوم الموجودة في المجرَّة أكبر، كان الثقب الأسود أعظم. وتظل هذه القاعدة صحيحةً في الكون المحلِّي، الذي يعكس حالة الكون في الماضي القريب. و تشير الدراسات الأخيرة إلى أن الإشعاع الصادر أثناء نمو الثقب الأسود يكون له دورٌ في التحكم بميلاد النجوم أو حتى إيقاف ميلاد النجوم، فهو يتسبب بارتفاع درجة حرارة الغاز. وهذا ما دعا العلماء إلى افتراض أن نمو الثقب الأسود وتشكُّل النجوم حدثان مُترابطان، يجريان سويةً.

الكون في الزمن السحيق:

يميل العلماء إلى إدخال تعديلٍ على النظرية المعتمدة لتشكُّل المجرَّات. إذ يبلغ حجم الثقب الأسود المكتَشف في مجرة CID-947 حوالي 10% من حجم مجرَّته، في حين أن الثقوب السوداء في الكون المحلي تتراوح أحجامها بين 0.2% إلى 0.5% من حجم مجرَّاتها المضيفة. يدل هذا على أن نمو الثقب الأسود جرى بفعاليةٍ أكبر من المجرَّة. الأمر الذي يُخالف النماذج التي تُشير إلى النمو المترابط. وتبيَّن للباحثين أن النجوم كانت لا تزال تتشكَّل على الرغم من بلوغ الثقب الأسود حدَّه في النمو، وهو أمرٌ يتناقض مع معتقد العلماء بأن للإشعاع الصادر عن الثقب الأسود دوراً في إبطاء أو إيقاف تشكُّل النجوم في المجرَّة.

تسحب الثقوب السوداء المادة إليها، فتُضاف إلى كتلة الثقب الأسود نفسه، وتُسمَّى هذه العملية النمو الالتحامي accretion وتُظهر البيانات الواردة من مرصد تشاندرا أن معدَّل النمو الالتحامي للثقب الأسود في مجرة CID-947 ضئيلٌ جداً، الأمر الذي يدلّ على وصول عملية نموّه إلى ختامها، في حين تبين البيانات الأخرى بجلاء أن النجوم ما تزال تتشكَّل في المجرَّة.

يمكن للمجرَّة أن تتابع نموَّها في المستقبل، لكن النسبة بين كتلة الثقب الأسود ونجوم المجرَّة ستبقى كبيرة. الأمر الذي حدا بالباحثين للاعتقاد بأن مجرَّة CID-947 تُمثِّل السلف للمنظومات الأكبر كتلةً في الكون المحلي المرصود، من قبيل مجرَّة NGC 1277 الواقعة في كوكبة Perseus على بعد حوالي 220 مليون سنةٍ ضوئيةٍ عن مجرَّة درب التبانة.

يحتاج العلماء لدراسة المزيد من الثقوب السوداء العملاقة الموغلة في القِدَم لعلهم يفهمون الآلية التي تتفاعل بها مع مجراتها المضيفة بشكل أفضل.

المصدر:

هنا

هنا

هنا

هنا

هنا

هنا