الموسيقا > موسيقا

لماذا نحب الموسيقى الحزينة ؟

من طبيعة الإنسان السعي ـ بشكلٍ فطريّ- وراء كلّ ما يوفِّر له الراحة النَّفسيَّة والجسديَّة والابتعاد عن كلِّ ما يجلب له الألمَ والمعاناة والحزن.. وبمعرفة ذلك يتبادرُ لأذهاننا سؤالٌ.. لماذا نحبُّ الموسيقى الحزينة؟ ولماذا نستمعُ لها؟

وفقاً لأرسطو، فإنَّ امتلاء النفس بالمشاعر الحزينة وغير المرغوبة يقود إلى تطهيرها من تلك الأحاسيس السلبيَّة والتخلص منها.

وعلينا الأخذ بالحسبان أنَّ مصطلحَ الحزن الذي يُعاني منه الناس في الحياة الواقعيَّة يختلف عن الحزن المرتبط بالمجال الفنِّيّ والموسيقيّ.

في 2013، نُشرت دراسةٌ حولَ الفرقِ بين المشاعر الحقيقيَّة (كالحزن الذي نواجهه في حياتنا اليوميَّة) والمشاعر المدركة (كـ"الحزن" الذي نحسُّ به عند سماعِ الموسيقى الحزينة)، موضحةً بأنَّه في الوقت الذي ينظر فيه للموسيقى الحزينة بأنَّها موسيقى مأساوية ومفجعة، فإنَّ المشاعر التي عبَّر عنها المشاركون في التَّجربة كانت مشاعرَ مرحةً ورومانسيَّةً وأقلَّ مأساويَّة.

وإليكم بعض المقطوعات المحزنة المفرحة كمثالٍ على نقاشنا:

تشايكوفسكي – السيمفونية 6 (Pathetique) – الحركة الرابعة

مِن الملاحظ في مقطوعات تشايكوفسكي بأنَّها تحوي بين علاماتها بعضَ مشاعر الحزن (كاللحن الرَّئيسيّ في مقطوعة بحيرة البجع) والـ Pathétique التي تُعدُّ مثالاً في ذلك، حيث إنَّها كانت مُهداة لابن أختِهِ الذي كان تشايكوفسكي على علاقةٍ سريةٍ معه. من الجديرِ بالذكر أنَّ اسم Pathétique هو التَّرجمة الفرنسيَّة لـ Патетическая الروسيَّة (Pateticheskaya)، والتي تعني "عاطفيّ، شغف". هل تعلم: عندما عُرضت سيمفونية Pathétique لأوَّل مرَّة في 16 تشرين الأول 1893، كان من بين الحضور طفل عمره 11 عام. كان اسمه ايجور سترافينسكي.

فاغنر – بريلود تريستان وإيزولد Tristan und Isolde's Prelude

لنقلها بكلمات فاغنر: "من الآن فصاعداً لن تكونَ هناك نهاية للشوق والحنين والنشوة وعذاب الحب. العالم والقوة والشهرة والشرف والشهامة والولاء والصداقة مبعثرة كحلمٍ لا قيمةَ له. شيءٌ واحدٌ تُرك حياً: الشوق والشوق المستمر، الحنين والضياع. والخلاص الوحيد المتبقي هو الموت، توقف الوجود، النوم الذي لا استيقاظ بعده".

تحوي هذه المقطوعة على كورد Chord تريستان والذي فيه صوتان متنافران (علامتان موسيقيتان لا تتناسبان مع بقية العلامات في الكورد فتخلقان نوعاً من النشاز في الصوت، يتلو هذا الكورد عادةً كورد آخر لا يحوي هاتين العلامتين يحَل معه هذا التنافر) يخلقان في المستمع رغبةً مؤلمةً لحلِّ وإنهاءِ هذا التنافر. ولكن هذا الكورد يتحرَّك ليحلَّ أحدَ هذين النشازين دون الآخر. وهذا النقص يوازي عذاب الشوق الذي عانى منه كلٌّ من تريستان وإيزولد في رغباتهم غير المكتملة.

بيتهوفن - السيمفونية رقم 7 ( الحركة 2)

وصف النَّاقد الموسيقيّ ويليام مان الحركة الثانية من سيمفونية بيتهوفن السابعة بأنَّها "ممزقة للقلب". ولكن سرعة المقطوعة ليست كالمقطوعات الجنائزية تماماً ولذلك فهي تلمح نحو الشعور بالحزن دون أن تشير إليه بشكلٍ مباشر.

ماهلر - Das Lied von der Erde—Abschied

كُتب هذا العمل بين عامي1907 و1908، الفترة الأكثر إيلاماً في حياة ماهلر، حيثُ إنَّ معاداتَه السَّامية أجبرتهُ على الاستقالة من منصب مدير قاعة فيينا للأوبرا، ثُمَّ وفاة ابنته الكبرى ماريا من الحمى القرمزية وبعد ذلك تشخيصه بتشوّه خلقيّ ولادي في القلب. في السنة التالية، قرأ ماهلر ترجمات ألمانية لقصائدٍ من الشِّعر الصينيّ القديم، واختبر ماهلر من خلالها رؤى عن الجمال الدنيوي، فحوّل سبعة من تلك القصائد إلى موسيقى.

باربر- Adagio for Strings

عُزفت هذه المقطوعة الحزينة خلال جنازاتٍ وأحداثٍ مأساويةٍ كبيرةٍ كجنازة روزفلت وأحداث 11 سبتمبر وجنازة غريس كيلي وجنازة آينشتاين وعند نَقلِ خبر وفاة جون كنيدي.

ريتشارد شتراوس - المسخ (Metamorphosen)

ألَّف ريتشارد شترواس هذه المقطوعة لعشرة كمانات وخمس فيولات وخمس آلات تشيلو وثلاثة آلات كونتراباص. ويُعتقد بأنَّ هذه القطعة التي ألفت بين آب 1944 وآذار 1945 هي رثاء لدمار ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية، وخاصَّةً تفجير ميونخ. ولكن حدَّدت دراسةٌ في عام 1990 بأنَّ Metamorphosen يجب أن تُفسَّر على أنَّها دراسةُ غوته الفلسفيَّة عن السَّبب الكامن وراء الحرب بشكلٍ عام، أي حيوانية الإنسان. واستخدم شتراوس المفهوم الكلاسيكي للمسخ للتَّعبير عن السقوط في أعماق الحيوانية. اقتبس جزء الباص عدَّة مقاطع من لحن المارش الجنائزي funeral march لسمفونية بيتهوفن البطولية Heroic Symphony.

راخمانينوف - جزيرة الموتى (Isle of the Dead)

يُنظر لمقطوعة جزيرة الموتى على أنَّها التَّعبير الجوهريّ المثاليّ لحزن راخمانينوف. حيث إنَّ مصدر إلهامِهِ كان لوحةً رُسمت من قِبَل الرَّسام السويسري أرنولد بوكلين، تصفُ هذه اللوحة جزيرةً معزولةً محاطةً بمتاريس حجرية، يتَّجهُ نحوها قاربٌ يقوده شخصٌ ذو ملابسٍ سوداءَ، ويحمل ركاباً ذوي ملابس بيضاء كالأشباح. إنَّ صوت التشيلو والقيثارة في بداية المقطوعة يُحاكي حركة المياه المظلمة المحيطة بالجزيرة. لقراءة مقالنا عن هذه المقطوعة من هنا

المصادر:

هنا