الموسيقا > موسيقيون وفنانون سوريون وعرب

صبري مدلل ... عراقة حلب في صوت ماسي - دراسة تحليلية لصوت صبري مدلل

حياته وأعماله:

دعاه كثيرون “بآخر شيوخ الطرب بسورية”، أسلوبه في الغناء شرقيّ صافٍ صقلته أساليب التجويد القرآني التي أتقنها منذ طفولته... صبري مدلل ابن حلب البار، تتلمذ على يد “عمر البطش” وعنه أخذَ المقامات الشرقية فأبدع مستخدماً إياها في ماحفظه من الموشحات.

كانت بدايته مع الشيخ أحمد المصري في حلقات المساجد الذي اكتشف حلاوة صوته وقدّمه إلى عمر البطش، وهناك انفتحت له بحور المقامات الشرقية حيث تعلم أيضاً عزف العود والآلات الإيقاعية التي أسره حبّها.

بدأ الطالب الصغير مدلل في التأذين في المساجد. رفعُ الأذان تقليدٌ أساسيٌّ في المدرسة الموسيقية الحلبية، وقد كان اليافع صبري مدلل قوياً في الصوت والأداء ومخارج حروفه واضحة ونطقه سليماً، فبدأ برفع الأذان في مسجد “قسطل الحجارين” ثم أخيراً في “الجامع الأموي في حلب” حيث استمر لمايقرب على السبعين عاماً، وقد قيل الكثير عن دهشة الناس وتكوكبها أسفل المئذنة لسماع هذا الصوت الشجي لهذا الفتى الحلبي صبري مدلل.

كان الأسلوب في اختبار الصوت وفق المدرسة الحلبية على ماذكرت المراجع قائماً على الأذكار والتواشيح، “إذ كان على المؤذن الشاب أن يصعد إلى المئذنة قبل أذان الفجر بدقائق، و ينشد عدداً من الأذكار والتواشيح. فإذا استيقظ أهالي الحي على هذا الصوت واستحسنوه، يكون قد نجح في الاختبار بامتياز ويجري الاعتراف بموهبته كمؤذّن”.

الخطأ الكبير الذي حدَّ من بريق هذه الحنجرة الذهبية كان في أربعينيات القرن الماضي، لما أن انضمّ صبري الى فرقة الإذاعة المؤسسة حديثاً وبدأ بتقديم وصلات الطرب فيها، فما كان من والده، مدفوعاً بمنظورٍ ديني، إلا أن منع ولده خشيةً من أن يُساق بعيداً عن الإنشاد الديني، وقد امتثل الابن البار لطلب ابيه فترك العمل بالإذاعة واكتفى بفرقته الموسيقية للإنشاد والتواشيح الدينية وإحياء الحفلات الدينية في بيوت أغنياء حلب. وبذلك، ورغم شهرة صبري الحالية، إلا أنني أجزم أنه لو لم يُحدّ لكان وصل إلى قمم فاقت ما وصل إليه، ولكنّا أُطربنا بصوت فيه كل الإمكانيات الكافية لتنافس عظام مطربي تلك الأجيال.

غنّى صبري وفرقته بالإضافة إلى التواشيح والأذكار، العديد من أعمال القصبجي وسيد درويش وزكريا أحمد وغيرهم من كبار الملحنين، وقد كان صبري يؤدي كل ذلك بنفحته الحلبية، وبقوة صوته وأسلوبه الرصين في الأداء واللفظ... وأبرز مثال على تطريبه ونفحته الخاصة هو التسجيل الرائع لأغنية “هو صحيح الهوى غلاب” لزكريا أحمد وبيرم التونسي، التي أرفقها بهذا البحث، حيث نلحظ الاختلاف الواضح في الأداء بينه وبين أم كلثوم نفسها، فأسلوب المدرسة الحلبية واضح في صوته وأدائه للجمل الموسيقية وقوة صوته وانتقاله السلس بين المقامات والعُرب.

دخل مدلل مجال الغناء الصوفي من أوسع أبوابه، فغنى ولحن الكثير من أعمال المتصوفة أمثال ابن الفارض، فكانت ألحانه تصيب السامعين بنفحة صوفيه روحية قوية تأسرهم لساعات بعد استماعها بصوت الحاج صبري، وهذا ما أصاب الجمهور الفرنسي لما دُعي صبري إلى فرنسا للمرة الأولى، ثم الثانية في مهرجان التراث العربي في باريس، وكان صبري وقتها في الثمانينيات من عمره!

شكلت باريس للرجل العجوز منعطفاً هاماً في حياته، ولكن للأسف متأخراً، على إثر حفلاته هناك خرج صوته إلى العالم بآلاف النسخ من التسجيلات... وهكذا وأخيراً خرج صبري تلك الموهبة الفذّة من “دكان الحاج صبري مدلل للعطارة” ليغني مع تخت شرقي كامل وهو في عقده الثامن من العمر!

والجدير ذكره أيضاً أن صبري مزج بخفة وجمال أسلوب الموشحات الأندلسية بالقدود الحلبية فكان أول من قدّم وأبدع هذا النوع، كما سنجد في الأمثلة المرفقة بهذا المقال.

رحل صبري مدلل عن هذا العالم تاركاً لنا تراثه الموسيقي العظيم وتواضعه الذي تعجب معه كيف أن إنساناً بكل تلك القدرات والشهرة يعيش تلك الحياة البسيطة وكأن كل تلك الشهرة لاتغنيه عن فنجان قهوته في داره العربية وأزقة حلب الضيّقة التي صقلت صوته فكان صلباً مثلها ناصع البياض في خامة صوتيه قلّ أن تجدها عند أي إنسان.

صبري مدلل ملحنٌ ومنشد ومغنِّ، الجديد الذي أريد أن أقدمه في هذا البحث، ليس الحديث عن ألحانه، فهي وإن كانت جميلة قوية، إلا أنها لا تميزه عن الملحنين الكبار في ذلك العصر في سورية وفي مصر، فالحقّ أحقّ أن يُقال. ما أريد أن أتحدث عنه هو خامته الصوتية، صوته المطواع، سلّمه الموسيقي الذي سُكِب في حنجرته فطار إلى أعلى الطبقات الموسيقية وانحدر إلى أدناها، ذلك الصوت الذي لم يخن صاحبه أبداً هو الجدير بأن نُفرد له شياً من بحثنا هذا.

تحليل خامة صبري مدلل الصوتية:

مالمقصود بالتحليل الصوتي؟ المقصود هو دراسة الموجة التي يحدثها صوت المغني أو آلة معينة، وللتحليل الصوتي عادةً عدة أنواع:

-التحليل الزمني: وهو أبسطها، فيه يتم دراسة ورسم الموجة الصوتية بدلالة الزمن، فنستطيع قياس فترات الانقطاع والاستمرار في الصوت، كما يمكن أن نقيس قدرة الصوت على البقاء في طبقة صوتية معينة لفترة زمنية. من المعروف أن طول النفس له علاقة بالتنفس والتدريب، ولكن قليلون يعلمون أنه له علاقة بالطبقة الموسيقية أيضاً (النوتة)، فمثلاً: إذا كنت تستطيع أن تحافظ على صوتك متصلاً لعشر ثوان على طبقة الـ قرار، فإن هذا سيكون أكثر صعوبة إذا أعدت التجربة نفسها ولكن على طبقة الـ جواب، هذا يعود إلى اختلاف حركة الحنجرة باختلاف النوتة.

في التحيليل الصوتي يمكن إجراء عدة تجارب صوتية على الشخص أو الآلة لتحديد نقاط الضعف والقوة في الصوت، وبالتالي تحديد نوع الصوت، فالأصوات البشرية تقسم إلى عدة أنواع (ونحن هنا نتحدث عن أصوات قابلة للسماع فإذاً هي بمجملها جميلة):

-الصوت الماسي: سمي كذلك لأنه فتّان مثل الماس من أي جانب تراه، وهذا الصوت ليس فيه أي نقاط ضعف، بل كله جمال وقوة في القرارات والجوابات، ومن الأمثلة عليه أصوات كثيرة مثل أسمهان، أم كلثوم، صباح فخري، الشيخ النقشبندي الذي كان صوتاً لا معقولاً في اتساعه...الخ.

-الصوت الذهبي: هو صوت عتيق، يزداد جمالاً وبريقاً مع العمر، مثل صوت ربى الجمال مثلاً.

-الصوت الفضي: هو الصوت الذي ليس نفس قدرات الصوتين السابقين ولكنه يتصف بالحنان الشديد الذي ينقله لسامعيه، مثل صوت فيروز مثلاً.

-الصوت النحاسي: هو الصوت المجلجل الذي يقرع مثل صوت الجرس.

-الصوت الخشبي: وهو صوت غليظ ويستخدم في غناء أدوار الـ Alto، ولا يفيد في غناء أنواع أخرى.

-التحليل الترددي: من المعروف أن كل نوتة موسيقية لها تردد معين ثابت، ففهي في النهاية موجة تتغير بشكل جيبي، ولكن عندما تختلط الموجات الصوتية كما في حالة الغناء بصوت بشري، تكون الموجة الناتجة عبارةً عن موجة مشوّهة لا تأخذ شكلاً جيبياً، التحليل الترددي هو الذي يحلل الموجة الصوتية إلى ترددات ومطالات، فيقال أن الموجة ذات التردد 200 هرتز وصلت الى مطال 12 ديسبل... لن نخوض في هذا المقال بتفاصيل رياضية أكثر لأن ذلك سوف يقتضي منا دراسة لتحليل فورييه وتحليلات رياضية أخرى تستخدم في هذا المجال.

العملية التحليلية في هذا المقال قائمة على دراسة ناحيتين في صوت المرحوم صبري:

 الناحية الأولى هي طول النّفس، وهي ناحية مميزة وهامة جداً خاصة لدى موسيقيي المدرسة الحلبية في الغناء الأصيل.

 الناحية الثانية هي المطالات الصوتية والترددات التي تتمكن حنجرة صبري من الوصول إليها.

ولتحقيق هذه الدراسة التحليلة قمت بإجرائها على مقطع من أذان بصوت صبري، اقتطعته من الفلم الوثائقي “مقامات المسرة” لمحمد ملص الذي أخرجه عن حياة صبري مدلل. الأذان (المرفق في البحث) يستخدم فيه صبري عدة مقامات شرقية (الراست- الجهاركاه – الزنجران – الصّبا - الكُرد) ولأي مستمع غير مختص تتضح الليونة والديناميكية في صوت صبري وانتقاله بين تلك المقامات بخفة ورخامة.

يبقى السؤال لماذا اخترت دراسة الأذان ولم أختر أغنية ما أو موشّحاً؟ السبب بسيط جدّاً وهو أنّ الأذان هو أكثر شكل موسيقي من الأشكال التي أدّاها صبري تتضح فيه القدرات الصوتية بشكل مجرّد ومعزُول عن دعم أي آلة موسيقيّة أخرى.

الناحية الأولى التي سأقوم بدراستها هي طول النَّفَس، وهي ميزة مهمة عند صبري، وعند كل جهابذة المدرسة الحلبية والقرآنية على السواء. بحسب مفهوم صبري للأداء فإن المغني لا يجب أن يقطع الجملة الواحدة ليأخذ نفَساً في وسطها بل لا بدّ أن تؤدى الجملة الموسيقية المنطبقة على الجملة اللغوية بشكل متصل من أوّلها إلى آخرها. وتجدر الإشارة إلى أن صعوبة الاستمرار على نفسٍ واحد تزيد كلما علت الطبقة الموسيقية للجملة اللحنية.

يذكر الباحث محمد قدري دلّال في كتابه “صبري مدلل وأثر حلب في غنائه وألحانه، دراسة تحليلية موسيقية” أن صبري امتاز على عبد الوهاب نفسه في غناء أغنية من ألحان عبد الوهاب. الإغنية هي "ياجارة الوادي"، والمشكلة التي يقع فيها جميع مغنّي هذه الأغنية كائنة في البيت الذي يقول:

“وتعطّلت لغة الكلام وخاطبت عيني في لغة الهوى عيناكِ”

بحسب طريقة صبري في الأداء فإن هذا البيت يجب أن يقال بشكل متصل، فلا مكان فيه للقطع والتنفس، لان الاقتطاع في أي مكان يسيء إلى اتصال المعنى، وقد جاء لحن عبد الوهاب محققاً لذلك فهو متصل، مع امكانية الوقف بعد "تعطلت" ولكنه غير محبّذ. إلا أن أداء عبد الوهاب وفيروز وعدة مغنين لم يأتِ متوافقاً مع هذه الفكرة، فنجد أن عبد الوهاب في بعض التسجيلات يقف بعد "وخاطبت" وفي تسجيلات أخرى يقف وقوفاً شنيعاً في منتصف كلمة "لغة" بعد حرف الـ غ وهو أمر غير مقبول موسيقياً، وهذا التسجيل هو الأكثر انتشاراً (يبدأ البيت في الدقيقة 5.05 من التسجيل المرفق بالبحث)... وقد أفاد الباحث في الكتاب المذكور أعلاه أن صبري تدرّب على تأدية هذه البيت دون وقف فكان بذلك أفضل مؤدٍّ له حتى من صاحب اللحن نفسه. للأسف لم أتمكن من الحصول على التسجيل بصوت صبري، ولكنه ليس مستغرباً منه ذلك فالأمثلة على طول نفسه كثيرة كما سنجد في مثالنا المدروس.

إن جمل الأذان التي يؤديها صبري جمل متصلة اتصالا تاماً، أي لا يوجد أي وقف بين كلمات كل جملة على حدى، في المخطط التالي نجد شكل الموجة الصوتية للمقطع المدروس (الدراسة التحليلية مُجراة على برنامج التحليل الموسيقي Spectra Plus SC)

الشكل (1) الموجة الصوتية العامة للمقطع المدروس

من خلال التدقيق بالمخطط السابق، والاستماع المرافق للتسجيل الصوتي، أمكنني أن أثبّت الجدول التالي بالمدة الزمنية لكل جملة في الأذان، وأكرر أن كل جملة من الجمل متصل تماماً، أي لا تحتوي أي فترة انقطاع.

ومن الملاحظ أن زمن الوقف بين الجمل ضئيل مقارنة بزمن كل جملة وهذا دليل على طول النفس، علماً ان صبري في هذا الأداء (كما هو واضح في الفيديو) كان في أواخر أيامه، ويؤدي الأذان وهو جالس جلسة غير مريحة للأداء، ومع ذلك كان ممتلكاً هذه القدرة على الأداء المتصل.

الناحية الثانية هي المطالات الصوتية التي يصل إليها صبري، وهي واضحةٌ بالسماع، ولكني أحببت في هذا التحليل أن أقيسها علمياً وأن أثبّتها بالأرقام.

من خلال رسم المخطط الترددي بدلالة المطالات للمقطع الصوتي المدروس (dB = f(sec)) نحصل على النتيجة التالية:

الشكل(2) المخطط المطالي بدلالة الزمن للمقطع الصوتي المدروس

إن الأماكن المشار لها بمربعات حمراء تحوي المطالات العظمى التي وصل إليها صوت صبري في المقطع المدروس.

القمة الأولى يصل إليها صوت صبري في اللحظة 150.2308 sec عند كلمة "حيَّ" تماماً قبل أن يبدأ صبري بالتعريف عن نفسه، وهذه القمة موضحة على الشكل (3) وبإجراء التحليل الترددي لهذه القمة (dB=f(Hz)) يتضح إن مطال هذه القمة يبلغ -13.28 dBr بطاقة صوتية عالية قيمتها -8.41 dBr كما هو واضح بالشكل(4)

الشكل (3) القمة الصوتية المدروسة الأولى

الشكل (4) التحليل الترددي للقمة الصوتية الأولى

بالمثل نستطيع دراسة القمة الصوتية الثانية، الحاصلة عند كلمة "عليك" في اللحظة 105.4145 sec وهي موضحة بالشكل (5) والتي أمكننا تحليلها ترددياً كما سبق، وفق الشكل (6) ومن خلال ذلك نستطيع أن نقيس هذا المطال والطاقة الصوتية المكافئة له فنحصل على القيمتين التاليتين:

المطال-17.19 dBr ، الطاقة الصوتية -10.57 dBr وهي أخفض مطالاً وطاقة من القمة الأولى التي قسناها.

والقيمتان اللتان قسناهما هما قيمتان عاليتان، والجدير قوله ليكون بحثنا متكاملاً، أنني لم أقم بفلترة التسجيل، بل اعتمدت عليه كما هو لذلك تظهر ترددات طفيلية في الصوت تشبب تشوهات يمكننا قياسها ولكنها ضئيلة نوعاً ما.

الشكل (5) القمة الصوتية الثانية

الشكل (6) التحليل الترددي للقمة الصوتية الثانية

خاتمة

إن المحاولة التي قدمناها في هذا المقال، هي محاولة بحثية مبتدئة، غايتها كانت قياس ميزات الخامة الصوتية لصبري مدلل، من خلال دراسة طول نفَسه وقياس المطالات الصوتية العليا التي بلغها في الأذان المدروس، بالإضافة إلى إعطاء فكرة سريعة ومبسطة عن حياته وأعماله الموسيقية.

مصادر:

هنا

 محمد قدري دلّال ، "صبري مدلل وأثر حلب في غنائه وألحانه، دراسة تحليلية موسيقية"، كتاب منشور ضمن احتفالية حلب عاصمة الثقافة الإسلامية.

 منتديات سماعي الموسيقية.

 الفلم الوثائقي "حلب مقامات المسرة" إخراج محمد ملص.

 تسجيلات موسيقية بصوت صبري مدلل في منتديات سماعي وعلى شبكة Youtube.com

ملفات موسيقية مرفقة

 هو صحيح الهوى غلّاب؟

 مقطع من أذان (المقطع المدروس في البحث)

 أذان آخر على مقام راحة الأرواح

 من يوم حبيت:

 تسجيل محمد عبدالوهاب ياجارة الوادي