الطبيعة والعلوم البيئية > علم البيئة

كتاب "6 درجات"، ارتفاع الحرارة في أوروبا والحرائق المتوسطية

ارتفاع معدلات الحرارة في أوروبا:

يكاد لا يخفى عن أحد ما يمرُّ به كوكبنا من تغيرات وذبذبات وشذوذات في المناخ، أمطار غزيرة وعاصفية تهطل بشكل مفاجئ على منطقة مصنّفة بأنها جافة، ومن جهة أخرى فترات جافة وقاحلة تضرب منطقة لطالما كانت رطبة. سنواتُ مرّت بها منطقة بلاد الشام لم تصل فيها الأمطار إلى المعدل السنوي، وسنوات أخرى فاقت هذا المعدّل إلى الضعف تقريباً. هذا كلّه يعود إلى تعقيد نظام المناخ وحساسيته.

من منكم يذكر موجة الحر الشديد التي اجتاحت أوروبا في العام 2003م. ربما لا تكون درجة الحرارة 38 درجة مئوية غريبة عن بلادنا ومنطقتنا العربية إلا أنها لم ولا يمكن أن تمر مرور الكرام في أوروبا، فمع وصولها لحدود 40 درجة مئوية اندفع الناس في المناطق الساحلية إلى الشواطئ للتخفيف من وطأة هذا الحر الشديد والغريب، بينما لم يجد الكثيرون من سكان المناطق الداخلية مهرباً يلتجئون إليه وكان أكثر الضحايا تأثراً من المسنين ممن لم يجدوا وسائل التبريد الملائمة، وقدرت الضحايا المرتبطة بموجة الحر في ذلك العام بين 22 ألفاً و 35 ألفاً في أوروبا كلها.

ولم تقتصر الأضرار على الوفيات والآثار الصحية، فقد ترافقت الحرارة العالية مع مستويات دنيا من المياه المتوفرة في المجاري المائية في ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، وبالتالي انخفاض القدرة على توليد الطاقة الكهرومائية، وكنتيجة خسائر فادحة في الإنتاج الزراعي، إضافة إلى حرائق الغابات في البرتغال وذوبان كميات هائلة من الغطاء الجليدي في العروض العليا وأعالي الجبال. والسؤال هو: ما الذي يشير إليه ارتفاع الحرارة في هذا العام؟

● بالنظر إلى البيانات الإحصائية للعقود السابقة تبيَّن بأنَّ موجة الحر التي حصلت في العام 2003م هي حدث باحتمالية تكرار تبلغ واحداً كل عشرة آلاف سنة، إلا أن الاحتباس الحراري خلال القرن العشرين تسبب في رفع احتمالية مرور أيام حارة بمقدار ثلاثة أضعاف! وزيادة زمن موجة الحر بمقدار الضعف! أي أن موجة حر من هذا النوع لم تعد كارثة طبيعية بل حدثاً قابلا للتكرار وبكثرة!!

والحقيقة المرعبة تكمن في أنَّ ارتفاع الحرارة درجتان وسطياً، ستؤدي إلى موجات حر أشد من تلك التي مرت في هذا العام، وسيكون عدد الضحايا أكبر بكثير وخاصة من المسنين حيث ستصبح الحرارة مشابهة لمثيلاتها في شمال أفريقيا وسنشهد جفافاً في الأنهار والبحيرات وذبولاً للمحاصيل والمزروعات والغابات ونشوب الحرائق. ومع حصول كل ذلك وخاصة الخسائر في الغطاء النباتي سندخل في دوامة وحلقة مفرغة حيث أن ارتفاع الحرارة يؤدي لتناقص الغطاء النباتي وبالتالي زيادة تركيز غازات الاحتباس الحراري وارتفاع متزايد في درجة حرارة الكوكب، مما يهدد كنتيجة بحصول موجات حر أشد وطأة وتأثيرات قد لا نكون قادرين على مواجهتها أو التكيف معها!.

ربما لا يتوفر لدى بعضنا القناعة الكافية بنتائج الدراسات ونماذج المحاكاة المستقبلية والتي تنذر بالآثار الكارثية للتغير المناخي، ولكن علينا أن نتذكر دوماً أن العام 2003م لم يكن قصة خيالية أو فرضية وضعها أحد ما، بل إن معظمنا قد عاش في ذلك العام وربما يتذكر شيئاً من أحداثه. لنعلم أن الطبيعة قد أعطت تحذيراتها وإن فشلنا في الاستجابة لن نجد من نلومه إلا أنفسنا.

الحرائق المتوسطية:

ربما كانت الصور التي أتت من البرتغال في العام 2003م من أكثر الصور المثيرة للصدمة عندما التهمت ألسنة اللهب مساحات واسعة من الغابات الجافة ودمرت البساتين والبيوت وقتلت 18 شخصاً. عادلت المساحة المدمرة ربع مساحة لبنان وكان ممكناً من الفضاء رؤية ألسنة اللهب والدخان الممتد حتى شمال المحيط الأطلسي، مما دفع بالسياح المذعورين للهرب جنوباً بحثاً عن الشمس مجدداً وهرباً من دخان الحرائق.

لن تكون حرائق الغابات مظهراً غريباً للسياح في جنوب أوروبا وشمال حوض المتوسط في كوكب ذي حرارة أشد بدرجتين، وستكون هذه الشواطئ عرضة لدرجات حرارة أعلى مع انتقال حزام المنطقة الجافة شبه الاستوائية شمالاً، وستمتد فترة خطر الحرائق بمقدار أسبوعين إلى ستة أسابيع إضافية.

ويمكن اعتبار الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عرضة لخطر الحرائق طيلة أيام السنة، حيث سيتجاوز عدد الأيام الحارة، ذات الحرارة الأعلى من 30 درجة مئوية، ستة أسابيع في اسبانيا وفرنسا وتركيا وشمال أفريقيا ودول البلقان. أما الليالي الاستوائية التي لا تنخفض فيها الحرارة عن 20 مئوية فستزيد عن الشهر، كما أن المنطقة بأسرها ستعاني امتداد فصل الصيف بمقدار أربعة أسابيع إضافية. وسيبلغ عدد موجات الحر نحو خمسة وسطياً - درجة حرارة أعلى من 35 درجة مئوية -.

إنَّ ارتفاع الحرارة سيؤدي إلى تناقص الأيام الماطرة وانخفاض كميات الهطول – حتى النصف في شمال إفريقيا - وستتأثر كذلك تركيا واسبانيا، أما بقية المناطق الأوروبية الداخلية فستشهد تناقصاً مقداره 10%، وستعاني جنوب فرنسا وايطاليا والبرتغال وشمال غرب اسبانيا من فترات جافة إضافية – حوالي الشهر -.

ستؤثر هذه الأحداث كلّها دون أدنى شك على متطلبات المعيشة والرفاهية البشرية، وربما لا يكون التكيّف حلّاً في هذه الأحوال، على سبيل المثال: سيصبح العوز المائي سمة دائمة للمنطقة وخاصة في المناطق الساحلية في إيطاليا واسبانيا حيث يكون الجفاف على أشده وخاصةً في مثل هذه المناطق الجاذبة للسياح وذات الكثافة السكانية العالية، حيث سيبلغ الطلب على المياه أوجهُ في فترات الجفاف هذه، مما يعني انخفاض قدرة المحطات الكهرومائية.

وقد تترافق موجات الحر مع انقطاع التيار الكهربائي، وسيضطر السياح وخاصة المسنون إلى الابتعاد عن هذه الظروف الصعبة بينما سيحاول سكان شواطئ المتوسط الأوروبية التوجه شمالاً إلى البلدان الأكثر برودة، وستبرز حالات واضحة للجوء البيئي، وكنتيجة سيتغير نمط الحياة بأكمله حيث سيميل - من المرجح - إلى نمط الحياة السائد في البلدان العربية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بالإضافة إلى تغيّر معايير الراحة والرفاهية البشرية، ولا يغفل علينا التغيرات التي ستطال قطاع الاقتصاد انطلاقاً من تأثير هذه التغيرات على الإنتاج الزراعي وإنتاج الطاقة والسياحة، حيث بلا شك ستتغير وجهة السياح المعروفة من شمال أوروبا البارد إلى الجنوب حيث الشواطئ الرملية والمناخ المعتدل الملائم صيفا وشتاءً(1) إلى العكس حيث سيتجهون من الجنوب إلى الشمال بحثاً عن المناخ المعتدل المنعش. (1): تشتهر المنطقة كإيطاليا وجنوب فرنسا وإسبانيا بسياحة الإشتاء الدافئة المميزة.

المصدر:

Lynas، Mark (2007): Six degrees. Our future on a hotter planet. London: Fourth Estate.