البيولوجيا والتطوّر > التطور

عواقب تطور الدماغ البشري، وهل مازلنا ندفع الثمن؟

داء آلزهايمر، مرض الشيخوخة الذي عادةً ما تبدأ أعراضه بالظهور في منتصف الستين من العمر. هو أحد الأمراض غير المعكوسة التي تصيب الدماغ وتدمّره بشكل بطيء ومترقِّ، مما يؤدي في النهاية لفقدان القدرة على القيام بأبسط المهام اليومية، ويعدّ أحد أكثر أسباب للوفاة لدى كبار السن في الولايات المتحدة بعد أمراض القلب والسرطان.

سُمّيَ هذا المرض على اسم الطبيب Alois Alzheimer، والذي قام في عام 1906 بوصف المرض عندما لاحظ تغيرات في النسيج الدماغي لامرأة متوفّاة، لم يتم حينها وضع تشخيص لمرضها الذي وصف على أنه "مرض عقلي غير اعتيادي"، إذ كانت تعاني من فقدان الذاكرة، مشاكل في اللغة وسلوكيات متقلّبة غير طبيعية، وبعد وفاتها وفحص دماغها، تبيّن وجود تكتلات غير طبيعية (تدعى الآن باللويحات النشوانية Amyloid plaques) وحزم ليفية متشابكة tangles (تدعى عقد تاو)، بالإضافة إلى فقدان الاتصالات بين الخلايا العصبية المسؤولة عن نقل الإشارات لمختلف أرجاء الدماغ والمناطق الأخرى من الجسم كالعضلات.

لهذا المرض عدة أسباب وعوامل خطورة، ولم يكن تطور الدماغ البشري وارتقاء مستوى الذكاء مما وُضِع في الحسبان، ولكن كشفت مجموعة من الباحثين في أيار العام الجاري ضمن مقال في صحيفة Nature العلمية، عن دراسة جديدة تشير إلى تزامن ظهور مرض آلزهايمر مع زيادة مستوى الذكاء البشري أثناء عملية التطور الطبيعيّة.

و أشار الباحثون إلى تغييرات في ستة جينات لها علاقة بتطوّر الدماغ البشري، حصلت نتيجة الإنتقاء الطبيعي على مدى الـ 50 إلى 200 ألف عام المنصرمة، حيث ساهمت تلك التغييرات في زيادة اتصال العصبونات، والنشاط المشبكي والاستقلابي، والمرونة الوظيفية، وجَعْل الانسان العصريّ أكثر ذكاء من أسلافه كَنتيجة.

ولكن يبدو أنّ هذه الإمكانيات الفكرية اصطحبت معها رفيقاً غير متوقع، والذي قد يكون الثمن الذي ندفعه للحصول على تلك القدرات، وهو ظهور داء آلزهايمر!

فتلك التغيرات التي اعترت الجينات سالفة الذكر ساهمت غالباً في عدم الثباتية البنيوية وزيادة المتطلبات الاستقلابية، ما أدّى إلى ارتفاع خطر التنكّس العصبي في الدماغ الهَرِم.

هذا ما بنى عليه الباحث واخصّائي وراثة الجماعات Kun Tang في مؤسسة شنغهاي للعلوم البيولوجية في الصين أفكاره في هذه الدراسة التي تخلُص إلى أنّ نشوء اضطرابات الذاكرة على علاقة مع زيادة المتطلبات الاستقلابية على الأدمغة الشائخة.

لإثبات ذلك، قام Tang وزملاؤه بالبحث في DNA الإنسان العصري عمّا يدلّ على وجود هذه التطوّرات في جينوم الجنس البشري في تلك الحقبة من الزمن، إذ اختبروا المادة الوراثية لـ 90 شخصاً من أصول أفريقيّة وآسيوية وأوروبية بحثاً عن أنماط تنوّع ناتجة عن الانتقاء الطبيعي وتغيّرات التعداد السكاني.

ولكن هذه العملية لم تكن سهلة، وذلك لتشابه تأثير حجم التعداد السكاني والانتقاء الطبيعي على الجينوم.

لذا ولمعرفة التغيّرات الناتجة عن الانتقاء الطبيعي فقط، حاولوا رصد تغيّرات التعداد السكاني مع الزمن، وعزل التغيّرات الجينية التي لم تكن متوافقة مع تلك التغيّرات السكانية، مسلطين بذلك الضوء على حوادث الانتقاء التي حدثت قبل ما يقارب الـ 500 ألف عام، وكاشفين النقاب عن القوى التطوّرية التي شكّلت إنسان العصر الحديث، والتي يُعتقد بوجودها قبل حوالي 200 ألف سنة.

ومن الدلائل الأخرى الداعمة لما طرحه الباحثون، والموجودة بشكل طبيعي قبل تطبيق كل هذه التقانات الحيوية والبيولوجية الجزيئية، أنّ البشر هم النوع الوحيد الذي يصاب بداء آلزهايمر، وأنّ هذا المرض غائب حتى لدى أكثر الرئيسات قرباً من الجنس البشري، كالشامبانزي، ما يُشير إلى ارتباط المرض بزيادة القدرات العقلية.

مع ذلك، يجب ألا نغفل محدوديّة حتى أكثر الطرق قوّة لتحليل الجينوم، وذلك بسبب التقلّبات الكبيرة عبر التاريخ.

فالآسيويّون والأوروبّيّون ينحدرون من قلّة تركوا أفريقيا منذ حوالي 60 ألف سنة، ما شكّل ما يدعى "عنق الزجاجة السكانية population bottleneck" والذي سبَّب انخفاض التنوع الجيني عند سكان أوروبا.

أمّا جينوم الشعوب الأفريقية، الذي يحوي جميع أنماط التنوع الجيني، فقد أتاح للباحثين نظرةً أعمق عبر الزمن، قدمت المزيد من المعلومات عن التغيرات التطورية التي منحت البشرية شكلها الحالي.

المصادر:

هنا

هنا

هنا