البيولوجيا والتطوّر > منوعات بيولوجية

مريض برلين: المريض الأول والوحيد الذي شُفِيَ تماماً من الإيدز!

رُبَّ ضارةٍ نافعة؛ هذا جُلُّ ما يمكننا قوله تعليقًا على قصة المريض الذي اشتُهر عالميًّا بلقب "مريض برلين"؛ فكيف يمكن لإنسان بالغ راشد أن يتخيل بأنَّ سرطانًا قاتلًا قد أنقذ حياة هذا المريض من الإيدز؟ إنها قصة المريضِ المدعو تيموثي راي براون Timothy Ray Brown البالغ من العمر آن ذاك 45 عامًا؛ فما حكايته وكيف عُولِج، ولم سَمِّي بمريض برلين؟ 

لم تكن الحياة سوداء بوجه تيموثي حينما أُصيب بمرض الإيدز عام 1995؛ فقد نجح في التعايش مع المرض مدة 11 عامًا بمثابرته على تناول أحد أنواع الأدوية المثبطة لنشاطِ الفيروسات والتي تُعرَف بمضادات الفيروسات القَهقَرية Antiretroviral Drugs، واختصارًا ARV لكنها ما لبثت أن اسودَّت بوجهه تمامًا عامَ 2006 حينما علِمَ بأنَّه قد أُصيب أيضًا بأحد أنواع سرطانات الدم المعروف باللوكيميا النَّـقوية الحادة (Acute Myeloid Leukemia (AML؛ فقد أصبح بعد تلك اللحظة مريض إيدز ومريض لوكيميا؛ مرضان قاتلان والضحية واحدة، ولكن الأقدار قد شاءت أن تخلق صدفةً فريدةً جدًّا من نوعها سمحت لهذا المريض بأن يُـشفَى تمامًا ليس من الإيدز فقط؛ بل من اللوكيميا أيضًا؛ ليشتهر على مستوى العالم بالمريض الأول والوحيد الذي شُفِي من الإيدز، وحتى نفهم الأسباب العلمية وراء هذا الحدث الجلل علينا توضيح بعض المفهومات. 

لا داعي للإطالة بالحديث عن مرض الإيدز، فلا بدَّ أنك قرأت أو سمعت عنه كثيرًا؛ لذلك سنتحدث باختصار بما يتلاءم مع متطلبات فهم تفاصيل قصة مريض برلين.

اسم مرض الإيدز AIDS أتى من اختصار الكلمات Acquired Immune Deficiency Syndrome متلازمة نقص المناعة المكتسب، وواضح من الاسم أنَّ المصاب يعاني ضعفًا حادًّا في جهازه المناعي؛ فلا يستطيع جسمه مقاومة أبسط المُمرضات؛ ممَّا يجعله ضحية لأضعف أنواع الميكروبات أو حتى الجروح؛ والسبب في ذلك أنَّ الفيروس المسبب لمرض الإيدز والمُسمَّى بفيروس نقص المناعة البشري النوع الأول (اختصارًا HIV-1) يصيب إحدى أهم الخلايا المناعية في الجهاز المناعي، والمُسمَّاة بالخلايا التائية T-Cells التي تؤدي دورًا مركزيًّا في الاستجابة المناعية؛ فيتكاثر داخل الخلايا التائية المصابة ليُفجِّرها وينتشر بأعدادٍ مَهولة في الجسم؛ فيصيب كلُّ فيروسٍ جديد خليةً تائيةً أخرى ويؤدي في نهاية المطاف إلى نقصٍ تدريجي بأعدادِ هذه الخلايا؛ ممَّا يجعل مناعة المريض ضعيفة جدًّا، ولكن إذا استُخدِمت الأدوية المثبطة لتكاثر الفيروس؛ فإنَّ نشاط هذا الفيروس سيتوقف تقريبًا؛ ممَّا يساعد في بقاء المريض على قيد الحياة ما دام يستخدم الدواء بانتظام، وهذا تمامًا ما حدث مع صديقنا تيموثي. فقد ثابر على تناولها بانتظام ليستطيع جهازه المناعي السيطرة على تكاثر الفيروس وليبقي أعداده منخفضة وثابتة نسبيًّا. 

ولكن؛ ما آلية دخول الفيروس للخلايا التائية؟ 

حتى يتمكن أي فيروس من الدخول للخلية المضيفة يجب أن يحدث تطابق تام ما بين مُستضدَّات الفيروس Virus Antigens (وهي بروزات بروتينية مميِّزة لهوية هذا الفيروس) مع مُستقبلات الخلية المضيفة Host Cell Receptors (وهي كذلك بروزات بروتينية توجد على أسطح الخلايا)، وهذا أشبه ما يكون بطريقة تطابق المفتاح مع القفل؛ فعند حدوث التطابق التام بينهما تفتح الخلية أبوابها ليدخل الفيروس؛ لكنَّ لفيروس نقص المناعة البشري HIV-1 حالة خاصة؛ فهو يتميز عن باقي الفيروسات بأنَّه يحتاج إلى نوعين مختلفين من المُستقبلات معًا حتى يتمكن من الدخول وهذَان المُستقبلان لا يوجدان معًا إلا على أسطح الخلايا التائية الإنسانية فقط وهما المُستقبِل CD4، والمُستقبِل CCR5. 

ولتأكيد ذلك؛ فقد بينت الدراسات أنَّ هناك ما يعادل 1% من البشر من ذوي العرق الأبيض قد وُلِدوا بطفرةٍ وراثية نادرة قد أدت إلى حذف الجين (المورثة) المسؤول عن إنتاج المُستقبِل CCR5 على أسطح الخلايا التائية لديهم؛ مما جعلهم مُمنَّعين فطريًّا من الإصابة بمرض الإيدز؛ لذلك حتى لو أصيبوا بفيروس نقص المناعة البشري؛ فلن يستطيع الفيروس دخول خلاياهم التائية، وذلك لأنَّها لا تحمل على أسطحها المُستقبِل CCR5 المطلوب حتمًا ليدخل الفيروس (مع استثناء ضئيل جدًّا لهذه الحالة). 

ومن هنا تأتي علاقة سرطان الدم الذي أُصيب به تيموثي مع مرضه بالإيدز؛ فبعد مرور عام من فشل العلاجات التقليدية لسرطان الدم هذا بالجرعات الكيمياوية؛ بدأ أطباؤه في التفكير في المرحلة الآتية للعلاج وهي زرع نِقيِّ عظمٍ Bone Marrow مأخوذ من متبرع متوافق نسيجيًّا مع جسم المُتلقِي؛ فزرع نِقي عظم سليم قد يساعدُ المريض في إنتاج كريات الدم البيضاء السليمة غير السرطانية؛ ممَّا قد يساعد في تماثله للشفاء؛ فنِقي العظم والمعروف بالعامية (نخاع العظم) هو نسيج مرن يوجد في أماكن معينة من لُب العظام في الجسم وهو المكان الذي يحتوي على الخلايا الدموية الجذعية Blood Stem Cells وهي الخلايا الأم التي تَنتُج عنها الأنواع الرئيسية الثلاثة لخلايا الدم: خلايا الدم الحمراء Red Blood Cells، والبيضاء White blood cells، والصُّفيحات الدموية Platelets. 

ففي الحالة الطبيعية السليمة؛ تتحول الخلية الدموية الجذعية إلى ما يُعرَف بطلِـيعة الخلية البيضاء التي تتحول بعدها إلى الأنواع المختلفة للخلايا البيضاء الناضجة؛ أمَّا في حالة سرطان اللوكيميا النقوية الحادة تتعطل آلية نمو الخلية الدموية الجذعية إلى خلايا الدم البيضاء الناضجة؛ فتتكاثر طليعة الخلية البيضاء السرطانية تكاثرًا خارجًا عن السيطرة؛ لتسبب ما يثعرَف بابيضاض الدم الذي يودي بحياة المريض. 

فماذا حدث مع تيموثي؟ 

عامَ 2006؛ كان تيموثي في برلين وكان قد أمضى عامًا من العلاج الكيمياوي الذي لم ينجح في كبح جماح سرطان اللوكيميا، وفي هذا العام قرر الطبيب المعالج لتيموثي Dr. Gero Hütter أن يُخضِعه لعملية زرع نِقي العظم كما هو متعارف عليه في علاج مثل هذه الحالات؛ لكنَّ هذا الطبيب الذكي اقترح أن يأخذ نِقي العظم من متبرع مصاب بطفرة حذف الجين المسؤول عن إنتاج المستقبِل CCR5، وهذا ما حدث فعلًا؛ فقد زُرِعَ نِقي العظم بتيموثي مرتين في العامين 2007 و 2008، وكان نِقي العظم من المتبرع نفسه والحامل للطفرة الوراثية المذكورة، وفي اليوم نفسه الذي أَجرِيت فيه عملية الزرع الأولى؛ توقف تيموثي عن تناول الأدوية المثبطة للفيروس واستمر على ذلك حتى يومنا هذا. 

وبعد العملية الأولى بثلاثة أشهر؛ انخفض تعداد الوحدات الفيروسية انخفاضًا حادًّا لدرجة أنَّها لم تعد قابلة للكشف Undetectable levels، وارتفع في المقابل تعداد الخلايا التائية الحاملة للمستقبل CD4 ارتفاعًا ملحوظًا؛ ممَّا أدى إلى علاج هذا المريض تدريجيًّا من الإيدز؛ أما عن اللوكيميا؛ فبعد عملية الزراعة الثانية؛ انكمش السرطان ليختفي تمامًا واستمر اختفاء السرطان حتى بعد 20 شهرًا من المتابعة وإلى اليوم! 

قصة تيموثي ألهمت العديد من الباحثين لدراستها؛ فاليوم تبقى حالته من أكثر الحالات دراسة في العالم؛ فقد بدأ العلماء عدة أبحاثٍ سريرية لعلاجات مستوحاة من تجربة تيموثي؛ كالعلاج بالخلايا التائية المحورة وراثيًّا، وفي عام 2012 أسس تيموثي منظمة تَرعى الدراسات والأبحاث لإيجاد علاج للإيدز وسماها "تَحالُف علاج الإيدز Cure for AIDS Coalition". 

وإن علمتم بأنَّ أحد المرضى بحاجة للمشاركة في الدراسات السريرية لهذا المرض؛ فيمكنكم التواصل مع الكاتب عن طريق مبادرة (الباحثون السوريون) لتوفير معلومات أوفى. 

وحتى مقالنا المقبل؛ دمتم بألف خير. 

المراجع:

هنا

هنا

هنا

هنا

هنا

هنا

هنا