الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة

الدال والمدلول عند سوسور

هل اللغة ظاهرة اجتماعية أم هي ظاهرة تاريخية؟ ولماذا تختلف اللغات ومدلولات الكلمات من بلد لا يبعد عنا الكثير مثلاً؟ ولمن يعود الفضل في تأسيس علم اللسانيات الذي لا بد من أن يدرس في كلية الآداب والعلوم الإنسانية؟ وما هو الرمز وما هو الدال والمدلول؟ وهل حقا أتت الألفاظ بناء على الوظيفة التي تؤديها؟ إليكم هذه السلسلة التي تتناول فلسفة اللغة وتأثيرها علينا. ونبدأ أول حلقاتها في مقالنا هذا عن عالم اللغة السويسري فيرديناند دي سوسور.

فيرديناند دي سوسور(1857-1913)، عالم اللغة والفيلسوف السويسري، مؤسس المدرسة البنيوية في اللسانيات. أحدث ثورة في دراسة اللغة فأصبحت المسيطرة على الأفق الفلسفي في القرن العشرين. اتجه بتفكيره نحو دراسة اللغات دراسة وصفية باعتبار اللغة ظاهرة اجتماعية، وكانت اللغات تدرس دراسة تاريخية، وكان السبب في هذا التحول الخطير في دراسة اللغة هو اكتشاف اللغة السنسكريتية. في كتابه محاضرات في علم اللغة العام الذي قام تلاميذه بجمعه ونشره من خلال محاضراته، أسس سوسور نظريته الجديدة "السيميائية"، و التي أصبحت نهجًا جديدًا ليس في دراسة اللغة فحسب، بل في الدراسات الأدبية والثقافية والفلسفية.

بالنسبة لسوسور فإن الرمز يعد الركيزة الأولى في دراسة اللغة، و قد قسم الرمز إلى قسمين : "الدال" و "المدلول".

الدال وهو الصوت أو الحرف المكتوب.

أما المدلول فيقصد به الصورة الذهنية أو الفكرة عن الشيء.

وبذلك فالكلمة إشارة أو رمز، وليست إسمًا لمسمى بل هي مركب يربط الدال والمدلول. فمثلاً كلمة شمس هي الدال والصورة الذهنية لشكل الشمس هو المدلول. ونطلق على الدال والمدلول معا مفهوم الرمز. فالدال هو الصورة الصوتية والمدلول هو ما يتصوره العقل.

الرمز= الدال/المدلول

والرمز قد يكون (شجرة)، فيكون الدال الصورة اللفظية (ش.ج.ر.ة)، والمدلول سيكون شكل الشجرة بأغصانها وأوراقها. وإذا افترضنا أن كل حرف من كلمة شجرة يدل على شيء من الشجرة، كأن يدل حرف (ش) على الأغصان، وحرف(ج) على الجذع ، وحرف (ر) على الثمار، وحرف (ة) على الجذور، فعندها نقول بأن العلاقة بين الدال والمدلول علاقة طبيعية، ولكن الأمر ليس كذلك فالعلاقة اعتباطية ووضعية، بمعنى أن لفظ شجرة، تم وضعه والاتفاق عليه عرفيًا وهذا العرف موجود قبل الفرد، فعندما يأتي الفرد ويجد بأن الجميع قد أطلقوا على الشجرة هذا الاسم، فسيكون لزامًا عليه أن يستعمل هذا اللفظ كما استعمله سابقوه. ويعتقد الكثير أن اللفظ (سيارة)مثلا اشتق من الوظيفة التي تؤديها لأنها تسير، وفي الواقع يمكن إطلاق أي كلمة أخرى عليها، لأن في اللغات الأخرى سنجد بأنها تحمل ألفاظًا لا علاقة لها بالسير، ولكن تم الاتفاق على إطلاق هذا المسمى وهو اتفاق ضمني واعتباطي.

أي شيء يمكن أن يكون رمزًا، مثل صورة أو حركة بدنية أو فكرة، شرط أن تحمل رسالة ما ضمن ثقافة معينة. حيث أكد سوسور بأنه لا يمكن أن يكون هناك دال بلا معنى أو مدلول بلا شكل. و بالتالي فالرمز هو مزيج بين الدال و المدلول.

وقد يكون للدال مدلولات مختلفة، وبالتالي فإن الرموز تكون مختلفة. مثل رمز "فتح" موجود داخل مقبس في المصعد فيعني اضغط لفتح الباب، وإذا وجد هذا الرمز على صندوق فقد يكون على شكل خط أحمر ومقص. وبالتالي فإن كل اقتران بين دال ومدلول هو فريد من نوعه ويشكل رمزًا مختلفًا اتفق عليه في المجتمع وثبت مدلوله ومعناه.

ويختلف الدال والمدلول من شخص لآخر ومن ثقافة لأخرى، لأن العلاقة بينهما ليست ثابتة. فكلمة "فأرة" تشير بالعامية إلى حيوان، ولكن مع مرور الوقت اكتسبت مدلولات جديدة وأصبحت تشير إلى أداة إلكترونية، وبذلك يصبح لدينا دال ومدلول جديد يحل محل الدال والمدلول القديم أو قد يضيف إليه. فاللغة ليست عبارة عن قائمة بالكلمات ترتبط بأشياء ثابتة إنما هي متغيرة عبر الزمن والظروف.

ولم يقصد سوسور الكلمة المحكية أو المكتوبة فحسب، بل قصد الانطباعات الذهنية التي تكونها حواسنا عن هذا الشيء. وبالتالي فإن مفهومنا أو كيف ننظر إلى هذا الشيء بالإضافة إلى النظام الصوتي للغتنا، يخلق وحدة لغوية عقلية تتكون من جزأين و تدعى هذه الوحدة اللغوية بالرمز.

من منا لا يعرف "جوجل"، فبمجرد ذكر هذه الكلمة أول ما يخطر ببالنا هو شعار الشركة، ونعرف بأن المعنى المرافق لهذا الشعار هو "محرك بحث عملاق"، وهذه العلاقة بين هذين العنصرين تمت بشكل ذهني ودون الحاجة إلى كتابة الكلمة أو نطقها. لا يوجد شيء في كلمة جوجل يشير إلى أنه محرك بحث رقمي، لأنها كلمة عشوائية تم اختراعها لتدل على اختلافها عن محرك البحث ياهو. فإن الدال لا يعكس المدلول، بل الدال يخلق المدلول بناءً على المعنى الذي يثيره فينا.

يمكن القول بأن اللغة هي نظام من العلاقات بين رموز اللغة، ويتحدد معنى كل رمز من خلال علاقته بالرموز الأخرى، والاختلاف بين هذه الرموز يصنع المعنى، فمثلاً الشمس اكتسبت معناها باختلافها عن القمر أو عن كوكب الأرض على المستوى الدلالي، أما على المستوى الصوتي فإن الشمس لا يتحدد صوتها إلا من الكلمات التي تختلف عنها مثل شمع، وبالتالي الاختلاف بينهما صوتيا يعطي الفارق بينهما. ويجب التنويه بأن اعتباطية اللغة لا تعني العشوائية، لأنها لا تخضع لأمزجتنا ورغباتنا، إنما هي حادثة عرضية ارتضينا التعارف عليها والخضوع لأحكامها.

وبذلك فإن هذه الأفكار الثورية والإشكالية حول اللغة حولتها من وسيط للفكر ونقلتها إلى مركز الفكر. فيؤكد سوسور بأن العلاقة بين اللغة والفكر كالعلاقة بين وجهي الورقة الواحدة.

وبذلك كان لسوسور تأثيرٌ كبير على الفلسفة الغربية في القرن العشرين، حيث أن فلسفته قد غيرت طريقة التفكير باللغة وحولتها إلى موضوع لفض المسائل الفلسفية. فدراسة اللغة لم تعد تاريخية (أي أنها اقتصرت على دراسة اللغة على مر الزمن)، بل أصبحت تتركز على وضع اللغة في نقطة زمنية معينة. وأدى ذلك إلى نشوء المذهب البنيوي (البحث عن بنية النظام)، وبدأ عصرالبنيوية في تناول الظواهر ودراستها، فاتسمت دراسة اللغة بالتنظيم المنهجي وساعدت في تحليل الظواهر الفلسفية.

المراجع:

Ferdinand de Saussure Course in General Linguistics (Illinois: Open Court، 1972) 15-18، 65-187.

Will Buckingham. The Philosophy Book. DK: London. 2011

هنا