الفنون البصرية > فن وتراث

الدونات، وصفةٌ سرّية على قُصاصة ورق..!

يمكنك الاستماع للمقالة عوضاً عن القراءة:

محلّاتٌ ذاتُ واجهاتٍ زُجاجيةٍ تتيحُ لكَ فرصة رؤية الكعك المدوّر وهو ينتقل من مرحلةٍ لأُخرى برائحته الفوّاحة، مُعمّداً بالفانيليا الدافِئة ومُزيّناً بِما لذّ وطاب من الألوان والنكهات. هذا ما ستراه قريباً منك إنّ كنت في أميركا.

حسناً.. مبدئياً سنخبركم أنّ الدونات لها ماضٍ عريق وهذا ما لن نختلف عليه تقريباً، حيثُ أنّ ماضيها كان ينطوي على المهاجرين الهولنديين، المنفيّين الروس، الخبّازين الفرنسيين وعددٌ من السكان الأصليين للقارة الأمريكية إلّا أنّ الجوهر أميركي برغم تنوّع أصولها.

ما يتّفق عليه علماء الآثار أنّ الكعك متواجد بشكلٍ أو بآخر منذُ فترةٍ طويلةٍ حيثُ أنهم اكتشفوا ما يشبه كعك الدونات في المستوطنات الأميركيّة في عصور ما قبل التاريخ.

وصلت الدونات إلى مانهاتن تحت الاسم الهولندي "أولي كوكيس" أي الكعك الزيتي Olykoeks.

تعالوا نعد إلى القرن التاسع عشر لنرى كيف أنّ والدة قبطان سفينة في نيو إنجلاند واسمها "إليزابيث غريغوري"، كانت تقوم بصنع عجينةٍ مقليّةٍ وتضيف عليها التّوابل وجوزة الطّيب والقرفة مع قشر الليمون، وتعطيها لابنها بغية حمايته من نزلات البرد والإسقربوط أثناء إبحاره، ثمَّ قامت بإضافة البندق والجوز في الوسط وهكذا صار اسمها كعكة.

ولكن يعود الفضل لابنها بوضعه ثقبٍ في وسط هذه الكعكة، حيثُ يقول المؤرّخون أنّ سبب رغبة القبطان بوجود هذا الثقب هو جعلها أسهل للأكل، ولا زال البعض يعتقد أنّ سبب هذا الثقب هو أنّ القبطان أراد الأكل وقيادة السفينة بوقتٍ واحدٍ فكان هذا الثقب يُسهّل عليه المُهمّة أثناء انشغال يديه. وهذا ما نفاه القبطان جملةً وتفصيلاً في مقالة نُشرت ضمن صحيفة "بوسطن بوست" في بداية القرن الحالي، إذ قال: "استخدمتُ غطاء القصدير الذي كان يُغلّف العلبة وحفرتُ في وسط الكعكة فكان ذلك هو الثقب الأوّل للدونات الذي رأته عين البشر".

رُبما يرى البعض أنّ هذا التفصيل لا داعي لأنّ يأخذ هذه الضجّة في التحليل ولكن تستحق منّا الدونات وشهرتها أنّ نخوض غِمار كل الآراء والنظريات التاريخيّة حول نشأتها.

كان للحرب العالميّة دورها في نشر الدونات في أرجاء العالم، فمثلاً التقى الجنود الأمريكيون المشتاقون لهذه الكعكة في خنادق الحرب مع الفرنسيين، حيثُ كان يتم خدمتهم من قِبل متطوّعات لم يتوانَين لحظةً عن مُشاركة الجنود في خطوط المواجهة الأماميّة لمنحهم لقمةً هنيئةً تُقرّبهم من وطنهم الأم، فكنَّ يصنعنَ الكعك بالطبع.

قدم في عام 1920 "أدولف ليفيت" إلى نيويورك وهو لاجئ من روسيا القيصرية، وأحضر معه آلته الخاصة بصنع الكعك، وبدأ ببيع الكعك المقلي في مخبزه، وبسبب الإقبال الشديد عليه دفعه هذا لتطوير الآلة لتقوم بعمل أسرع لسدّ مُتطلبات الزبائن. كانت تلك الآلة هي من أوّل علامات الدونات واستمرّت بالتطوّر حتّى أصبحت أكثر دقّة في عام 1930.

كانت صحيفة "نيويوركر" تهمس لقرّائها من خِلال المقالات: "باستطاعتنا أنّ نخبركم عن مكان صناعة الدونات في برودواي"، وكانت الصحيفة تصف: "تطفو الكعكة من خِلال قناةٍ دهنيّةٍ في آلةٍ زُجاجيّةٍ مُغلقةٍ، تخطو حالمةً إلى مُنحدرٍ ثمَّ تَصِلُ بحياءٍ إلى السلّة الخارجيّة".

حتّى ذلك الوقت، كانت تلك الآلة تدرّ على "ليفيت" ما يُقارب الـ25 مليون دولار سنويّاً، مُعظمهم آتٍ من شحن الطرود بالجملة إلى خبّازين من جميع أنحاء البلاد.

حينها صرّح المُتحدّث باسم الشركة أنّ "ليفيت" أراد أنّ ينقل الدونات إلى مستوىً أفضل، خارج عن فكرة أنّ الدونات غارِقة بالشحوم الثقيلة والدسِمة لجعلها أخفّ ومنتفِخة وطريّة أكثر.

انتشرت مُلصقات في عام 1934 في معرض شيكاغو تُعلن عن أنّ الدونات هي ضربة العصر في تقدّم الطعام، حيثُ أصبحت نوعاً ما جزءاً من موجة المستقبل.

كانت تكلفة قطعة الدونات أقل من (نيكل) لذا كانت في متناول الجميع حتّى ضحايا الكساد الإقتصادي والذين كانوا هُم الهدف الأساسي والمحبوب.

نعود لعام 1930 وبعيداً عن مخابز "ليفيت"، كان هُناك رجلاً فرنسيّاً يُدعى "جو لو بو" الذي شقّ طريقه من نيو أورليانز إلى بادوكا في ولاية كنتاكي، ودفعته صعوبة الحياة إلى بيع وصفةٍ سرّيةٍ كانت مكتوبة على قُصاصة ورق تحمل اسم "كريسبي كريم" -لابد أنّ هذا الاسم ليس غريباً عليكم- باعها لصاحب متجرٍ محليٍّ يُدعى "اشماييل أرمسترونغ" والذي وظّف ابن أخيه "فيرنون رودولف" كعامل توصيل من الباب إلى الباب.

في عام 1937 وجد "فيرنون" نفسه مع اثنين من أصدقائه في وينستون ساليم بولاية نورث كارولاينا وبحوزتهم 25 دولار فقط لا غير. فاقترضوا من البقّال مكوّنات الكعك والتي كانت بطاطا، سكّر، حليب، وهكذا ظهرت دفعةً جديدةً من "كريسبي كريم" في عام 1936 حيثُ هذه السنة شهدت أحداثاً أُخرى تاريخيّة، فقد حاز "جو لويس" على لقب الأوزان الثقيلة، واختفت "أميليا إيرهارت" في المحيط الهادي، و تمَّ الانتهاء من جسر البوابة الذهبيّة، كذلك تمَّ إطلاق الأغنية الشعبية التي تقول أنك تستطيع العيش على الدونات والقهوة في حال كنت واقعاً بالحب.

عمل "رودولف" مثل سابقه "ليفيت"، فقد عزّز المبيعات عن طريق جعل العامّة يرون طريقة صنع الكعك، وهذا التقليد ما زال موجوداً حتّى الآن في محلات "كريسبي كريم".

للمرة الثانية يبدو أنّ الحرب هي الحافز القويّ لاستهلاك الدونات، فإنّ صحّ القول جُنّدت الدونات في الحرب حيثُ كانت متطوّعات الصليب الأحمر واللواتي عُرفنَ لاحقاً باسم "دُمى الدونات" قد أنفقنَ من الدونات اليسير.

في كتابه "الجيش الموسيقي" أضفى "إيرفينغ برلين" بعضاً من الرومانسيّة حيثُ صوّر جنديّاً يخسر حبّه وقلبه عند باب مقصف مسرح برودواي ويأكل الدونات في طريقه -بعد القليل من القلق والانتظار- قائلاً:

"جلستُ هُناك أُغمّس الدونات إلى أنّ اشتعلت".

ليس غريباً أنّهُ عندما عاد "فيرنون" من الخدمة العسكريّة كان قد قرّر توسيع سلسلة الدونات وذلك ما كان.

في عام 1950 كان هُناك 29 متجراً لصِناعة الـ"كريسبي كريم" في 12 ولاية، إذ أصبح إنتاجها يتجاوز الـ75 دزّينة في الساعة، وكانوا قد واجهوا مُنافسة شرِسة عندما انطلقت "دنكن دوناتس" في ولاية ماساشوستس وازدهرت منذُ ذلك الحين.

بعد فترة من الزمن بدا وكأنّ الدونات بدأت تنخفض شعبيتها تدريجيّاً خاصّةً في نيويورك عندما ظهرت كعكة البيغل.

لطالما اشتهر الـ"كريسبي كريم" في الجنوب وانتشر لاحقاً إلى الشمال والغرب، وزادت المبيعات في عام 1997 بنسبة 20 بالمئة، حيثُ وصفته صحيفة "نيويوركر" في أحد الأعداد بأنّهُ "مزار". كانت الآلات تقدّم 800 دزّينة من الدونات في الساعة.

متاجر "دنكن دوناتس" انتشرت تماماً مثل الـ"كريسبي كريم" في 37 دولة أُخرى، وتُنتج ما يُقارب من خمسة أضعاف الكعك في أنحاء العالم. ففي الولايات المُتحدة وحدها يتم استهلاك 10 مليار كعكة كل عام لدرجة أنّهُ في أحد أشهر كتب الأطفال "هومر برايس" اعتُمد الرمز الأساسي الشهير وهو آلة صنع الدونات.

في الواقع ومن ناحية التغذية، فإنّ النتائج فيما يتعلّق بالدونات غير مُرضية تماماً، إذ تحتوي كل كعكة على 300 سُعرة حراريّة تقريباً بسبب إشباعها بالدّهون. إلّا أنّ العلم، والطُهاة، والتوبيخ الصريح لم يردع عشّاق الدونات من تناولها.

يقول "ديفيد شايت" وهو أحد مديري "كريسبي كريم":

"خِلال 800 عام، إذا كان على أميركا أنّ تخسر فنّ صِناعة الدونات. نحنُ سنُساهم في إعادة إحيائها من جديد وإعادة بناء هذا الفنّ، حيثُ أنّ وصفة "جو لو بو" السرّية ما زالت محفوظة في مكانٍ ما في وينستون ساليم على قُصاصة ورق".

المصدر:

هنا