التاريخ وعلم الآثار > التاريخ

لمثيولوجيا الكلاسيكية السورية، بين التأثير الفارسي والروماني ... الميثرائية

وصلنا معكم إلى نهاية الحقبة الأروع في تاريخ سوريا، العصر الكلاسيكي، حيث في هذا الجزء سنكمل حديثنا عن الإله مثراس الفارسي الذي انتهينا عنده في الأسبوع الماضي، في هذا الجزء سنتحدث عن الأيام الأخيرة للمثيولوجيا وبداية الصراعات بين الدويلات الصغيرة والتي أفضت في النهاية إلى انتصار الدولة الرومانية على جميع المنتفضين، وبهكذا يكون العالم على موعد جديد مع التاريخ الحديث، إنها التاريخ الذي سيمهد للعصور الوسطى، تابعوا معنا أغنى مقالات السلسلة الرائعة التي ستُختتم اليوم

-----------------------------------------

ولمن فاته الأجزاء السابقة:

المثيولوجيا الكلاسيكية السورية، بين التأثير الفارسي والروماني:

1. التجمع الحضاري هنا

2. الميثولوجيا الرومانية هنا

3. الآلهة والمثيولوجيا المحلية التي عبدت في سوريا هنا

-----------------------------------------

الميثرائية الرومانية :

كانت عبادة مثراس Mithras - تحدثنا عنه في مقال الأسبوع الماضي -، الإله الذكر، تنتقل في هذه الأثناء من فارس إلى أقصى تخوم الإمبراطوريّة الرومانية؛ وكان مثراس، وهو إبن أهورا-مزدا كما هو في في المراحل المتأخرة من الدين الزرادشتي، وكان إلهاً للنور، والحق، والطُهر، والشرف؛ وكان يُقال أحياناً إنه هو الشمس، وإنه يقود الحرب العالمية ضد قوى الظلم، وإنه يشفع على الدوام لأتباعه عند أبيه، ويحميهم، ويُشجّعهم في كفاحهم الدائم ضد الشر والكذب، والدَنَس، وغيرها من أعمال أهرمان أمير الظلام. ونقل جنود بمبي هذا الدين من كبدوكيا إلى أوروبا حيث صوّر فنان يوناني مثراس راكعاً على ظهر ثور يطعنه في خنجر في عنقه، وأضحت هذه الصورة هي الرمز الرسمي لذلك الدين.

وكان اليوم السابع من كل أسبوع يوماً مقدساُ لإله الشمس، وكان أتباعه يحتفلون في الأيام الأخيرة من ديسمبر بمولد مثراس "الشمس التي لا تُغلَب" والإله الذي يرمز الانقلاب الشتوي لنصره الدائم على قوى الظلمة حيث يتمثل يوم الانقلاب الشتوي كأحتفال لذلك، حيث بدأ من ذلك اليوم يفيض على العالم ضياء يزداد يوماً بعد يوم.

ويحدّثنا ترتليان Tertullian عن كهنة مثراسيين على رأسهم "حبر أكبر" وعذارى في خدمة الإله؛ وكانت القرابين تقرب إليه على مذبحه في كل يوم، كما كان عباده يشتركون في تناول طعام مقدّس من الخبز والنبيذ؛ وكانت الإشارة التي يختتم بها عيده هي دقّات ناقوس. وكان يُحتفظ على الدوام بنار متّقدة أما القبو الذي يمثل فيه الإله الشاب يطعن الثور بخنجره. وكان الدين المثراسي يحضَ على الخلق الكريم، ويطلب إلى "جنوده" ألا ينقطعوا طول حياتهم عن محاربة الشر في جميع أنواعه.

ويقول كهنته أن الناس كلّهم سيحشرون لا محالة أمام مثراس ليحكم بينهم، ثم تسلّم الأرواح الدنسة إلى أهرمان لتعذب على يديه عذاباً أبدياً، أما الأرواح الطاهرة فترتفع خلال طباق سبعة حتى تصل إلى بهاء السماء حيث يستقبلها أهورا-مزدا نفسه. وانتشرت هذه الأساطير التي تبعث في نفس أصحابها الأمل والقوة في القرنين الثاني والثالث من التاريخ الميلادي في غربي آسيا، وانتقلت منه إلى أوروبا (متخطّية بلاد اليونان)، وسادت معابدها متجهة نحو الشمال حتى وصلت إلى سور هدريان.

تمثال للإله ميثرا بالزي الفارسي يضحي بالثور البدائي فمن جسم هذا الثور ولدت النباتات والحيوانات التي يتغذى بها الإنسان

سياسة الميثولوجيات و ثورات اليهود :

بعد موت اسكندر تمزقت دولته وظل قواده يتنازعون فيما بينهم عليها حوالي ( 30 عام ) حتى انقسمت اخيرا بين اربعة من مشاهير قواده فصارت مصر من حصة بطليموس، وبلاد بابل من حصة سلوقس، وآسيا الصغرى من حصة انتيكوس، و وانتيباتر في مقدونيا ،وبعد معارك بين سلوقس وبطليموس ضد انتيكوس في آسيا الصغرى أُلحقت فلسطين بمملكة بطليموس، وفي العام نفسه استعاد سلوقس بابل التي فقدها .

وبعد معركة اخرى ضم شرق اسيا الصغرى وجميع بلاد سوريا من الفرات الى البحر المتوسط وبنى في سورية انطاكيا ،وصارت مركز الحكم السلوقي ،واُعتبر عام 312 ق.م بداية العهد السلوقي وتأسيس المملكة السلوقية في سوريا وصار السلوقيون يلقبون انفسهم بملوك سوريا.

وتأثرت سورية تاثراً ملحوظاً بالثقافة اليونانية (الهلنستية) منذ العهد السلوقي، حتى أن اليهود المشهورين بتعصبهم لقوميتهم قد تأثر اغنياؤهم والطبقات الوسطى منهم بالتيارات الجديدة واتخذوا اللغة اليونانية لغة لهم كما عمدوا إلى استخدام العادات والازياء الغريبة.

وبلغ الامر ان الاله اليوناني (زوس) طوبق بالاله (يهوه) وأقيم مذبح زوس في الهيكل في اورشليم مما أثار غضب رجال الدين اليهود والمتعصبين منهم الذين رأوا في ذلك تدنيساً لهيكل الإله يهوه فنشبت ثورة يهودية في فلسطين تمكن من خلالها الثوار من الاستيلاء على اورشليم وتطهير الهيكل. وتطورت هذه الحركة الدينية الى ثورة قومية بين اليهود لتحرير اليهود من العادات والعبادات الدخيلة، ووجهت الثورة أيضا ضد اليهود المعتنقين للثقافة الاغريقية السلوقية وسمح السلوقيون لليهود بالإستقلال الذاتي في المملكة التي كونوها واستمرت في الوجود إلى عهد الرومان.

ولم يقتصر الامر في انحلال المملكة السلوقية على استقلال اليهود وغيرهم بل إن جملة دويلات عربية نبطية في سورية استغلت الفرصة وظهرت في الجنوب كما نشأت دويلة أخرى في حمص ولم تكن تابعة للسلوقيين إلا بالاسم .

كما ان الأنباط العرب الذين سبق لهم ةأن طردوا الأدوميين من البتراء قد كونوا في هذا العهد مملكة قوية واستطاع هؤلاء الأنباط ان يأخذوا من السلوقيين جميع سورية والبقاع، كما دخلت دمشق في حمايتهم ايضا ،وبعد حروب معقدة بين الرومان والارمن والسلوقيين استطاعت روما في عام 64 ق.م من السيطرة على البلاد السورية في عهد ( بومبى ) فدخلت سورية تحت الحكم الروماني، وكانت سورية من أعظم وأهم الولايات الرومانية بحيث وضعت تحت الحكم المباشر من جانب والي روماني، وخول سلطات واسعة من تجنيد الجيوش وشن الحرب، وتم في هذه الفترة تقليص نفوذ المملكة اليهودية وقد أصبحت سورية قاعدة مهمة للعمليات العسكرية الرومانية ضد مملكة الفرثيين، أعقب ذلك عهد فوضى واضطراب ليس في بلاد سورية وحسب بل في بلاد الرومان نفسها على أثر الحرب الأهلية والنزاع بين بومبى وقيصر .

ما لبثت بعدها أن أصبحت كل من سوريا ومصر من حصة أنطونيوس على اثر اقتسام المملكة الرومانية، فحكم أربع سنوات لم تتميز بالهدوء، وقد ركن الى حياة البذخ مع كليوبيترا وأهمل شؤون الدولة فانتهز الفرثيون الفرصة وضموا سورية الى إمبراطوريتهم وبعد ان دحر اوكتافيوس انطونيوس وكليوبيترا في المعركة البحرية الشهيرة "اكتيوم" أعاد الحكم الروماني في سورية وتوج إمبراطور في روما باسم أوغسطس .

ومما ميز الحكم الروماني في سوريا وسائر انحاء الشرق الادنى تساهل الرومان في اعطاء نوع من الحكم الذاتي للاقاليم التابعة لهم والسماح لها بالاحتفاظ بأديانها ولغاتها وعاداتها وبالنظر لإزدهار الحياة الاقتصادية من الزراعة والتجارة والصناعة فقد ارتفع مستوى المعيشة وكثر السكان حتى ان سكان سورية في القرن الثاني للميلاد قدر عددهم بنحو 7 ملايين!!

وعلى الرغم من تغلغل النفوذ الروماني والثقافة الرومانية - الهلنستية في سوريا وعلى الرغم من تساهل الرومان مع رعاياهم ومنحهم الرعوية الرومانية الى طبقات مهمة من الولايات الرومانية فإن السكان الأصليين ظلّوا محافظين على كيانهم الوطني .

وكان اليهود اكثر السكان مقاومة لتغلغل الروح الهلينية بصفتهم ذوي ديانة موحدة، بلغ تمسكهم بها أن جعلوها قومية لهم ومع ان الطبقات المثرية والارستقراطية اليهودية قد تقبلت التغلغل الروماني وتعاونت مع اليونان الا ان الجمهور ورجال الدين والوطنيين المتعصبين كانوا يقاومون ذلك التحول حتى بلغت المقاومة الثورة العلنية على روما ما بين عامي 66 - 70 م في حكم نيرون وقامت ثورة اخرى في عهد هادريان ما بين عامي 132 – 134 م فقضى على الثورة الاولى القائد فسباسيان الذي دمر القطر وحاصر اورشليم .

وبعد وفاة نيرون قام ابنه باكمال عمل والده حيث حاصر المدينة حتى استسلمت فاوقع الرومان مذبحة مريعة في السكان وخُرّبت المدينة وأُحرق الهيكل وأُزيل من الوجود وقُدر عدد اليهود الذين هلكوا حوالى مليون نفساً وزالت "يهوذا" من الوجود، وكأن هذا لم يكف حتى ثار اليهود ثورة ثانية في عهد هادريان فسحق الاخير العصيان بقسوة وحول اورشليم الى مستعمرة رومانية

خاتمة :

إن ما كان للفترة الكلاسيكية من أهمية في تأسيس فكر العصر القادم كافٍ لأن يعتبرها الباحثون و المؤرخون نقطة محورية في رسم مستقبل هذه الشعوب فكرياً و دينياً و حتى سياسياً ، فهي الفترة التي تصارعت فيها الإمبراطوريات و نشأت خلالها الأديان و أخذت طابعاً مميزاً تستحق اسمها عليه .

المصادر:

السواح ، فراس (2003) موسوعة تاريخ الأديان. دمشق: دار علاء الدين للنشر و التوزيع و الترجمة. مج(2)

العريبي، محمد (1995) الديانات الوضعية المنقرضة. بيروت: دار الفكر اللبناني.

نصحي، ابراهيم (1998) تاريخ الرومان منذ أقدم العصور وحتى عام 133. القاهرة : مكتبة الانجلوالمصرية.

عبد الكريم ،مأمون (2009) آثار بلاد الشام في العصور الكلاسيكية. دمشق: جامعة دمشق.

عثمان، سهيل . و الأصفر، عبد الرزاق (1982) معجم الأساطير الرومانية و اليونانية. دمشق: وزارة الثقافة

Hans-Peter Schmidt، Mithra (2006) Encyclopedia Iranica . New York: Iranica.com.

ديورانت، ويل (1993) قصة الحضارة. دمشق : دار طلاس للدراسات.