الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة السياسية

الليبرالية في العلاقات الدولية

هل من المحتم على الدول أن تعيش في حالة حرب وصراع؟ وهل عقلانية الانسان ستدفعه للتعاون مع الآخرين أم للتصادم معهم؟ لفهم طبيعة العلاقات بين الدول بطريقة منهجية، لابد من الإطلاع على مجموعة من مدارس ومناهج لفهم العلاقات الدولية. فبعدما تحدثنا سابقا عن النظرية الواقعية وأفكارها، سنتعرف في هذا المقال على الركائز الأساسية التي تقوم عليها المدرسة الليبرالية، والتي هي مظلة تجتمع تحتها مجموعة كبيرة من النظريات السياسية الحديثة والمعاصرة.

النقطة التي ينطلق منها جميع الليبراليين هي، الإيمان بإمكانية تطور وتغير طبيعة العلاقات الدولية، مع الإقرار بصعوبة ذلك في كثير من الأحيان. تلك القاعدة تعني أنه ليس من المحتم علينا العيش في حالة صراع دائم على عكس النظرية الواقعية. فقدرة الإنسان على التعلم والاستفادة من خبراته التاريخية، ستساهم في إخراجه من حالة الخوف والشك والصراع، ومن ثم الانتقال به إلى حالة التعاون والاستقرار. فبالعقل يتحرر الإنسان من العيش تحت رحمة الغرائز والطبائع البدائية، وبه نسخر قوى الطبيعة ونفهم آليات المجتمع. فالأصل أن الانسان كائن عقلاني، وعقلانيته ستدفعه للتعاون مع الآخرين بدلاً من التصادم معهم.

أبرز ما يميز المدرسة الليبرالية هو التفاؤل، وأحياناً المثالية، في التعاطي مع العلاقات الدولية والطبيعة البشرية. فلطالما ترافق تطور الليبرالية مع الكثير من الدعوات المطالبة لإمكانية إقرار قانون دولي، وإنشاء منظمات دولية تنظم العلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية بين الدول. فعلى سبيل المثال، اعتقد الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1724 - 1804)، بإمكانية تأسيس نظام فيدرالي عالمي تجتمع تحت سقفه جميع دول العالم وتتعاون مع بعضها للوصول إلى حالة سلام واستقرار دائمين. ولكن يتطلب الوصول لذلك النموذج المثالي تحقيق ثلاثة شروط، وهي:

• انتشار الديمقراطية على مستوى العالم.

• زيادة عدد المنظمات والمعاهدات الدولية.

• وأخيراً تمتين الترابط الاقتصادي والثقافي والأمني بين الدول.

وإن أردنا ترجمة هذه الفكرة بلغة عصرنا الحالي، نجد أنها أقرب بكيان شبيه بالاتحاد الأوروبي، ولكن على مستوى أوسع يشمل كل دول العالم.

ومن مميزات المدخل الليبرالي في دراسة العلاقات الدولية، الاعتقاد بوجود ترابط بين المؤسسات والسياسات الداخلية ضمن الدولة وبين علاقاتها الدولية وسياساتها الخارجية. فمنذ أن كتب (كانط) كتابه الشهير "السلام الدائم"، ساد اعتقاد بين الليبراليين بوجود رابط عضوي، بين شكل نظام الحكم في الدولة ومدى نزوعها للحرب أو السلم. فعلى سبيل المثال، رأى كانط أن الدول الديمقراطية أكثر ميلاً نحو التعاون والسلم. وهذه الفكرة أصبحت لاحقاً القاعدة التي بنيت عليها النظرية المعاصرة في "السلام الديمقراطي". وإلى جانب ذلك، يركز الليبراليون على دور مأسسة وتقنين العلاقات الدولية في الوصول إلى عالم أكثر أمناً واستقرار. وذلك مبني على اعتقاد، بأن السبب وراء انخفاض عدد الحروب منذ مطلع القرن العشرين، يعود إلى التزايد المضطرد في عدد المنظمات والاتحادات العالمية، إضافة إلى ازدياد عدد المعاهدات والاتفاقيات الدولية. أيضاً يسود اعتقاد بين الليبراليين بأن زيادة المعاهدات والاتفاقيات الاقليمية والدولية، سيسهم حتماً في تطوير فكرة القانون الدولي وتنظيم العلاقات بين الفاعلين الدوليين، كالدول والمنظمات الحكومية وغيرالحكومية والشخصيات ذات النفوذ.

تاريخيا، لعب أصحاب هذا الاتجاه دوراً رئيساً في الدفع باتجاه تأسيس عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى، لتكون بديلاً لسياسات توازن القوى، والتي لم تنجح في تفادي اندلاع تلك الحرب المدمرة.

ومن الناحية الاقتصادية، يعتقد الكثير من الليبراليين، أن زيادة الترابط والتبادل الاقتصادي بين الدول يقلل من احتمال الدخول في حروب ونزاعات. يُعتبر ديفيد ريكاردو (1772 - 1823)، أبرز من أسسوا لهذا الاتجاه الاقتصادي في العلاقات الدولية. فرأى ريكاردو أن زيادة حجم التجارة الحرة سيسهم في التقليل من الحروب. فتحقيق الربح عن طريق التجارة والتعاون سينفي الحاجة للحرب. استمر هذا الاتجاه الاقتصادي في النمو طيلة القرن العشرين وتبلور على شكل نظرية تسمى "الاعتماد المتبادل". تقوم هذه النظرية، على فكرة أن زيادة الترابط والاعتمادية الاقتصادية سيرفع من تكلفة الحروب، وبالتالي ستسعى الدول لتجنب الحرب لما لها من خسائر اقتصادية محتملة.

وختاماً، فإن تدريس العلاقات الدولية كاختصاص أكاديمي، هي أيضاً فكرة ليبرالية ناجمة عن إيمان بقدرة البشر على فهم ديناميات العلاقات بين الدول، والإسهام في تغييرها والسير بها نحو السلمية والتعاون بدلاً من الحرب والصراع.

المراجع:

1- Dunne، Timothy، Milja Kurki، and Steve Smith. International Relations Theories: Discipline and Diversity. Oxford: Oxford UP، 2007.

2- Jørgensen، Knud Erik. International Relations Theory: A New Introduction. Basingstoke: Palgrave Macmillan، 2010.