البيولوجيا والتطوّر > الأحياء الدقيقة

علاج الأمراض السرطانية بالفيروسات.. إنجازات وطموحات| الجزء الأول

إنَّ الفيروسات "شيء" مميز في عالم الميكروبات. وأنا استخدم لفظة "شيء" بدلا ً من "كائن حيّ" تعمداً، حيث تتميز الفيروسات بوجود نمطين في حياتها؛ نمطٌ حيٌّ ذو طبيعة طفيلية، وآخرٌ جامد ليس حيّاً. فلا تُعتبر الفيروسات من الكائنات الحية حينما تكون خارج الخلية المضيفة، فهي لا تتغذى ولا تتكاثر ولا تطرح ولا تستقلب، مشابهةً بذلك الأشياء الجامدة. ولكنها سرعان ما تُظهِر خصائصها الحيوية فور وصولها بالصدفة إلى الخلية المُضيفة. هذه ليست أحجية، فعملياً الشكل العام للفيروسات هو عبارة عن جزيئات حيوية مؤلفة من بروتينات ومن مادة وراثية فقط. تتحد هذه البروتينات مع بعضها لتشكل غلافاً يسمى الكبسولة Capsule تحفظ ما بداخلها من مادة وراثية والتي تكون إما على شكل DNA أوRNA. فالفيروسات ليست خلايا كالبكتيريا (الجراثيم) أو غيرها من الميكروبات. وبديهياً، فهي أصغر حجماً منها.

وبما أنَّ النمط الحيّ للفيروسات هو ذو طبيعة طفيلية، فإنها تحتاج حتماً لمُضيفٍ لتتطفل عليه. والمُضيف المثالي للفيروسات هو الخلايا الموجودة في الكائنات الحية الكبيرة (كالبشر أو النباتات أو غيرها) بالإضافة إلى وجود بعض الاستثناءات، إذ أن هناك فيروسات تتطفل على البكتريا وعلى كائنات مجهرية أخرى. تحتاج الفيروسات للخلايا المضيفة لغاية التكاثر فقط، فالفيروس لا يمتلك المعدات اللازمة لنسخ مادته الوراثية. بالتالي، حينما يدخل الفيروس إلى الخلية المسكينة، فإنه يستخدم تقنيات جهازها الوراثي لينسخ آلاف النسخ عن مادته الوراثية وعن بروتيناته المشكلة للكبسولة. فتستمر الخلية المُصابة بإنتاج ذُرِّيّة Progeny الفيروس الأصل بداخلها حتى تمتلئ وتنفجر محررةً آلافاً من الفيروسات الجديدة، ليخرج كل واحد منها للوسط المحيط، علّه يصطدم بخلية مضيفة أخرى ليبدأ دورة تكاثر جديدة.

بالرغم من الطبيعة الطفيلية الإجبارية التي تتميز بها الفيروسات، إلا أنها انتقائية جداً في اختيار مُضيفها، كالمثل القائل "شحّاذ ومشارط". فهي تدخل خلايا معينة دون غيرها من الخلايا. والأسباب وراء ذلك تختلف باختلاف نوع الفيروس ونوع الخلية المضيفة. ولكن بشكل عام، تستطيع الفيروسات الولوج إلى الخلية المضيفة فقط عندما يتم الاتحاد الكامل بين مستَضِدّاِتها Antigens مع مستقبلاتٍ Receptors تتوافق معها على سطح الخلية الهدف. فالمستضدات الفيروسية هي عبارة عن بروزات بروتينية على سطح الفيروس ذات بنية ثلاثية الأبعاد، والمستقبلات هي أيضاً كذلك إلا أنها تكون محمولة على سطح الخلية المضيفة. فاتحاد المستضد بالمستقبل يشبه تماماً اتحاد المفتاح بالقفل. فعندما يكون تطابقهما كاملاً، تَـفتح الخلية أبوابها ليدخل الفيروس ليقوم بعمله التخريبي بعد ذلك.

بهذا، يتوضح لنا بأن الفيروس لن يستطيع دخول أي خلية لا تحملُ مستقبلاتٍ تتفقُ مع مستضداته. فعلى سبيل المثال، فيروسات الإنفلونزا تصيب بعض أنواع خلايا الجهاز التنفسي العُـلويّ ولن تصيب خلايا الكبد مثلا ً، وذلك لأنَّ خلايا الجهاز التنفسي العُـلويّ تحمل مستقبلاتٍ متوافقة مع المستضدات الفيروسية، وهذه المستقبلات غير موجودة في أنواع أخرى من الخلايا، وهذا هو سبب قدرة الفيروس على انتقاء الخلية المُضيفة.

ومن هنا تبدأ فكرة الحل العبقري: الفيروسات تنتقي الخلايا المضيفة لتتكاثر بها وتفجرها، فلم لا تكون الخلايا السرطانية هي الخلايا المضيفة؟

قد لا تصدق إن قلت لك بأنَّ الأبحاث في هذا المجال كانت قد بدأت منذ خمسينيات القرن الماضي، إلا أن أغلبها قد باء بالفشل لعدة أسباب منها تصدي الجهاز المناعي للفيروسات الصديقة. فلم يكن العلماء قادرين آنذاك على تطوير تقنيات تسمح بإيصال الفيروس الصديق للخلايا السرطانية للقضاء عليها دون انتباه الجهاز المناعي. لذلك، فقد نُسِي هذا المشروع لقرابة أربعة عقود، حتى استفاق العلماء الجدد على الفكرة ليحيوها من جديد.

وفي الجزء الثاني من المقال، سنخوض بتفاصيل أوفى عن هذه الفيروسات الصديقة وكيفية استخدامها للقضاء على الأورام. وسنذكر أهم العلاجات الفيروسية المتوفرة حالياً وكيفية الوصول إليها لمن يحتاجها، وسنتطرق كذلك للتخوفات والشكوك حول نجاعتها. وحتى ذلك الحين، دمتم بخير.

-سيتم ذكر المصادر في نهاية الجزء الثاني.