الفنون البصرية > فن وتراث

الخبز ...... صراعٌ وغرغرينا وتاريخٌ عريق..!

يعود الخبز إلى اثنينِ و عشرينَ ألفٍ و خمسمائةِ عامٍ مضى كانَ خلالها الخبزُ عنصراً أساسياً للحياةِ عند المصريين و الرّومان وفي بلادِ ما بين النَّهرَين. في ذلك الحينِ كانت تُطحنُ الحبوبُ كالقمحِ والجاودار والشعير وتُعجن مع سائلٍ مع إضافة قليل من الخميرة لرفع العجينة وتخفيفها ومن ثم خبزها للحصولِ على الخبز.

يشير ويليام روبيل في كتابه Bread: A Global History إلى تنوُّعِ أشكالِ الخبزِ لكلِّ بلد. حيث انتشر في أوروبا رغيفُ الخبزِ المنفوخِ خلالَ الألفي سنةٍ الماضية بينما كانَ الخبزُ المَرقوقُ الأوسعَ انتشاراً في افريقيا و الشَّرقِ الأوسط.

كما نوَّه تِرانس سكالي في مدوِّناته أن الخبز كان العنصر الأساسي في النظامِ الغذائيِّ خلال العصورِ الوسطى و أنه كان يؤكل بكمياتٍ متقاربةٍ في أوروبا جمعاء. حيث كان العمّال و الجنودُ و المرضى في المستشفياتِ على حدٍّ سواءً يتناولون ما يقارب ١ كيلو غرام من الخُبزِ يوميّاً.

نصح الأطباء في بداياتِ العصور الوسطى بالخبز الأبيض المصنوع من القمح لإعتقادهم بأنه صحي أكثر. فكان الخبز الأبيض مفضلاً لدى الجميع. لكنّ ذويّ الدَّخلِ المحدودِ لم يتمكنوا من صنع الخبزِ الأبيضِ دائماً فخبزواعجينةً من حبوبِ الشّوفان أو الشّعير و صنعو منها خبزاً داكناً أسمرَ اللّونِ و في فرنسا سمي هذا الخبز بالميسلين. وإذا تطلّب الأمرُ أضافوا إلى العجينةِ ما استطاعوا له من حبوبٍ كالأرزِّ أو البازلاء أو العدس أو الكستناء أو البلّوط

و عن كتابه الطَّبيخ كتَب ابن سيَّار الورّاق في القرن العاشر عن الخبز قائِلاً:

’الخُبزُ المُتّخَذُ منَ الحنطةِ أُلزِمَ لأكثَرِ النّاسِ و ما أُكثِرَ فيهِ من الخَميرِ و المِلحِ و أُجيدَ تَخميرُهُ وَ انضاجُهُ كانَ أخفَّ وَ أسرَعَ هضماً. و أمّا الجرمازجُ و الدّقاقُ فأقلّ غِذاءً و أسرَعُ هَضماً. و أمّا خُبزُ الملّةِ و الطّابقُ و كُلَّما لم يستوفي اختِمارُهُ و لم ينضُجْ فإنّهُ عَسرُ الهَضمِ مُهَيّجٌ لِوَجَعِ البَطنِ لايُحتَمِلُ إدمانَهُ إلّا أصحابُ الكَدِّ و التّعب. و أمّا الأطَريّةُ و خُبزُ الخشكنانج و القَطايِف و السّنبوسج و الأحشية فالحالُ فيها كالحالِ في الفَطيرِ إلّا ما عُجِنَ من هذه بِدَهنِ لَوزٍ أو لَبنٍ كان أغلَظَ و أوخَمَ و أكثر غِذاءً. و أمّا خُبزُ الشّعيرِ فإنّهُ بالقياسِ إلى خُبزِ الحنطةِ باردٌ قليلُ الإغذاءِ مُهيّجٌ لرياحِ القولونج و الأمراضِ الباردةِ عاقلٌ للبطنِ. و أمّا الخبزُ المتّخَذُ من ساير الحبوبِ التي ذكرناها فطبعُهُ في نحوِ طبعِ الحَبّ الذي اتُّخِذَ منه.'

تجاوز الإختلاف في طرق تحضيرِ الخبزِ المائدةَ ليكونَ سبباً أساسياً في الصِّراعِ بين كنائِسَ المشرقِ و كنيسةِ الرّومِ الكاثوليك.

للخُبزِ مكانةٌ خاصّةٌ في الدين المسيحي، فالتاريخ يذكر أن السّيد المسيح كسرَ خبزاً و قدّمهُ لتلاميذِه في العَشاءِ الأخيرِ و مُنذُ ذَلِكَ الحينِ كانَ تناوُلُ الخبزِ ومشاركتِهِ الطَّقسَ الأهمّ في القدّاسِ الإلهيِّ في الكَنيسة. لكنّ الإختلافَ قامَ على كيفيهِ تَحضيرِ العَجينةِ لخُبزِ القربانِ المقدّسِ، حيث اتّفقتِ الكنائسُ المشرقيّةُ على تقديمِ خبزٍ مُخَمَّرٍ - أي ما أضيف لعجينتهِ خميرةٌ و ملح- بينما ارتأت كنيسةُ الرّومِ الكاثوليك تناولَ قِطعٍ من رقائقِ الخبزِ غيرِ المُخمّر في قرابينها الإلهية.

و تَسبَبَ هذا الخِلافُ بصراعٍ لاهوتيٍّ مريرٍ امتدَّ خلال العصور الوسطى، ففي عام 1053 تم اغلاقُ كنائسِ الرّوم الكاثوليك في بيزنطة عاصمة القسطنطينية و أُخرِجَ الخبزُ غير المخمّر الى الشَّوارعِ و دُهِسَ تحت الأقدام. استنكر حينذاك أحد رؤساء كنائس بيرنطة تقديم الخبز غير المخمّر في القرابين الإلهيّة معللاً استنكارَه كاتباً:

' انتم تسمّونه (أي الخبز) بانيس و نحن ندعوه آرتوس. و هو من أيروبيل أي أن يرتفع كما أنّ الخميرةَ و الملحَ يُدْفِئان العجينة و يرفعانِها. بينما الخُبزُ الغير مُخمّر لا حياةَ فيهِ و خَبزُهُ كَخبزِ الحَجرِ أو الطّين ما هو إلا عصيَبةٌ و عذاب.'

خضَعَ الخُبزُ إلى مقاييسَ و ترتيباتٍ حولَ كيفيةِ بيعهِ لأهميته الكبيرة في حياةِ المواطنين. فكانَ على السُّلُطاتِ إتاحتَه لمتناولِ يدِ الفقراء كميسوري الحالِ على حدٍ سَواء. فرأت أن لا ترتفعَ أسعارُ الحبوب. و في إنكلترا وُضعت قوانينٌ في القرن الثالثِ عَشَر لتتحكم بسعرِ رغيف الخبزِ ليتمكنَ أيٌّ كانَ من أن يشتري كميةً قليلةً من الخبز على الأقل.

في أغلب الأوقات كان الخبزُ بأنواعه العديدةِ صالحاً للأكل. لكنه تسبب بنشرِ مرضٍ سُمّيَ بالتسمّمِ الأرَغوني Ergotism و ذلك بسببِ تناوُلِ خُبزِ الشّعيرِ الملوّثِ بفطرِ بوربوريا الدبوسيّة. كان من السّهلِ معرفةَ إذا ما كانت حبوبُ الشّعيرِ مصابةً بتلكَ الفطورِ السّامةِ حيث كانت تغيّر لون الحبوب إلى الأسوَد و تعطيها ملمساً لَزِجاً مما جعل الناسَ تربطُ بين المَرَضِ و الحبوبِ ذات المظهرِ الغَريبِ إلّا أنهم كانو يرفضون رَميها لكونها استغرقَت أشهُراً لِتَنمو.

لكنَّ المَرضَ كان مريراً و مؤلماً. عانى المصابون به بالهلوسةِ و الصَرَع و الإستفراغ. و كانت الغرغرينا من أبرز معالم هذا الطاعون، حيثُ كان المصابُ يشعرُ بأطرافِه و كأنها تحترق مؤديةً إلى تعفّنِ اللحمِ في أصابع اليدين و القدمين و من ثم الموت.

لاقى ما يقاربُ الأربعينَ ألفاً حتفهم في ألمانيا الشّماليّة عام 994. و في القرن الحادي عَشَر ابتكرت مجموعةٌ من عامّةِ الشّعبِ نظاماً لمداواة المرضى المصابين بهذا المرض و عيّنوا القدّيس أنطوني المصري ليكون الرّاعيَ لهذا التنظيم. و مع مرور الزّمن أُلقي على المرض إسم 'نار القدّيس أنطوني'.

لم تُسجّل إصاباتٌ عدّة لهذا المرض في القُرونِ اللّاحقة، سوى في البُلدانِ الأقَلّ تطوّراً.

سيستمرُّ الخُبزُ بتسجيل انتصاراتٍ على الزّمن و قد نستمرُّ بالتّرحيب به على موائِدِنا لأهميته كطعامٍ أساسيّ و ضروريّ ، فللخُبزِ أكثرُ من وجهٍ إذا ما أردنا التعمّقَ في تاريخه. لا نلحظ تغييرٍاً كبيراً في الخُبزِ منذ العصورِ الوسطى حتى يومنا هذا مما يدلّ على محافظة الخبز لمكانته عبرَ قُرونٍ مضت.

المصادر:

هنا