البيولوجيا والتطوّر > الأحياء الدقيقة

الرياضيّات لمواجهة الجراثيم المُمرضة!

على الرغم من كونِ الجراثيم التي تُسبّبُ لنا الأمراضَ اليوم عدوانيةً إلى حدٍ كبير، إلّا أنّها لا تتوقّفُ عن تطويرِ المزيد من المقاومة للصادّاتِ الحيوية التي نستعملها ضدّها، مُفرِغةً جُعبتنا يوماً بعد آخرَ من الأدوية الفعالة.

يحاولُ الأطبّاء إبطاءَ هذا التطوّرِ المستمر عن طريقِ تنويعِ الصادّات الحيوية التي يصفونها للمرضى، آملينَ أن يجدوا دواءً جديداً عند تطوّر المقاومة لدواءٍ قديم، أو أن يحصلوا على قدرٍ من الإستجابة عند إعادةِ استخدام دواءٍ قديمٍ قد يملكُ بعض الفعالية.

على الرغم من ذلك، فإنَّ هذه الطريقة القائمة على تنويع استخدام الصادّات الحيوية ليست علميةً بالكامل، ولا تملك فعاليةً مرتفعةً دوماً، مما يُتيح للجراثيم بأن تستمرّ في تطويرِ مقاومتها. لكن الآن أصبحَ من المُمكن تحسينُ هذه الطريقة عبر استخدام خوارزميةٍ جديدة تقوم بفكّ الشيفرة الكامنة وراءَ عملِ المورثات الجرثومية المسؤولة عن تطوير المقاومة الحيوية.

هذه البرمجية التي تُدعى "آلة الزمن"، والتي تمّ تطويرها من قِبل علماء أحياء ورياضيات، يمكنُ أن تعكسَ عملَ الطفرات المقاومة وتجعل الجراثيم ضعيفةً أمام تأثير الصادّات الحيوية.

ميريام بارلو Miriam Barlow، عالمة الأحياء في جامعة كاليفورنيا، راودتها هذه الفكرة عند محاولتِها توقّع كيفية تطوّر المقاومة الحيوية منذ عدةِ سنواتٍ، لكنها كانت تفتقرُ إلى البيانات التجريبية أو الرياضيات اللازمة لإتمامِ هذه العملية. تقول: "لقد كُنّا نحاولُ تسريعَ عجلةِ التطوّر لِنرى كيف ستتطوّر المقاومة الحيوية، لكننا واجهنا الكثيرَ من التفضيلات*". إن استخدام صادٍّ حيويٍّ ما يدفعُ الجراثيم لتطوير المقاومة ضدهُ، ولكن قد يدفعها في الوقتِ ذاتهِ لفقد المقاومة تجاه صادٍّ آخر.

هذا الأمر دفعَ بارلو للتعاون مع علماء الرياضيات لإيجادِ طريقةٍ تزيدُ احتمالَ فقدان المقاومة الحيويّة.

قامَ الباحثون بإجراء تجاربهم على مورثةٍ شائعة تسبّبُ المقاومة للبنسلين، ودرسوا أربعَ طفراتٍ مستقلّةٍ أخرى لهذه المورثّة تسبّبُ المقاومة لصادّاتٍ أُخرى، وقاموا باستخدام 15 صادّاً حيوياً شائعاً في تجاربهم على جراثيم Escherichia coli.

تمكّن الباحثون -عن طريق قياس معدّل نموّ هذه الجراثيم تحت تأثير أنواعٍ مختلفةٍ من الصادّات ومقارنة الطفرات التي تحدثُ في كُلّ حالة- من تحديد تركيبة الصادّات التي تُعيد هذه المورثّة لحالتها الأصليّة من دونِ الطفرات الأربع المقاومة للصادّات، وأطلقوا على هذه البرمجيّة التي طوّروها اسم "آلة الزمن".

الأمرُ المُثيرُ للإهتمام هو عدمُ حاجةِ الباحثين لاستخدامِ سلسلةٍ طويلةٍ من الصادّات لإعادة المورّثة لحالتها الأصليّة، وتمكّنهم من ذلك باحتمال نجاحٍ بلغ 60 بالمئة، وهو أفضلُ بكثيرٍ من نتائج الإستخدام الحاليّ للصادّات الحيوية.

هذه الحالة ليست الوحيدة التي تُثبِتُ فيها الرياضيات فائدتها في دراسة علم الأحياء، فيوماً بعد يوم يزدادُ اعتماد علم الأحياء على المعادلات الرياضية لدراسة الأنماط التطورية المختلفة.

تُدرك بارلو أن تطوّر الجراثيم في البيئةِ الحقيقية في مستشفىً يعجُّ بالمرضى أكثرُ تعقيداً بكثير من التركيز على دراسة مورثةٍ واحدة لجرثوم في أنبوب اختبار، لكنّها تعملُ الآن وزملاؤها على تطوير هذه الطريقة ليمكن استخدامها في الممارسة السريرية. يقول الدكتور جوناثان إرديل Jonathan Iredell، الطبيب الإختصاصي بالأمراض المُعدية في جامعة سيدني بأستراليا، بأننا بحاجةٍ إلى المزيد من علماء الرياضيات للعمل على حلّ مشكلة المقاومة الحيوية، التي تُعدّ بالأساس مسألةً تطوريةً بيئية.

وتبقى الفكرة الأهم في هذا البحث هي اختبارُ قدرتنا على التنبّؤ بالتطوّر، ومن ثمَّ قُدرتنا على عكسه. يقول الباحثون أنّه اختبارٌ صعبٌ للغاية، لكن يجدرُ بنا المحاولة، فنحنُ نتحدّثُ عن التحكّم بالتطوّر، وقيادتهِ، وهو أمرٌ جديدٌ للغاية!

*الحاشية: المقصود بالمُفاضلات (Trade-offs) هنا هو الصفات التي تنتج عند المُفاضلة في الاختيار بين صفتين مختلفتين; أي حين يكون للاحتفاظ بصفة إيجابية كلفة ما وهي الاحتفاظ أيضاً بصفة أخرى سلبية ..حيث كلا الصفتين مرتبطتين بشكل ما.

المصدر: هنا

مصدر الحاشية: هنا