الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة

الفلسفة السادومازوخية

أتت كلمة السادية من Sadism؛ وهي الظاهرة التي تجعل الإنسان يتلذَّذ بإيذاء الغير لا لغايات جنسية فحسب كما هو شائع؛ بل لغايات أخرى لا يبدو فيها أي غرض جنسي، ومن هذه الدوافع أو الأغراض المتعددة التي تختلف حسب الشخص؛ على سبيل المثال: الشعور بالأنا وتحقيق الذات والفخر. وهو مذهب اشتقَّ اسمه من الكاتب الفرنسي الماركيز دي ساد.

وكلمة المازوخية من Masochism، وتُكتب أحيانًا الماسوشية أو المازوكية، وتعني التعبير عن حالة الفرد في رضاه وتقبُّله لما يمكن أن يقع عليه من ألم أو إيذاء جسمي أو نفسي من شخص آخر واستمتاعه بهذا الألم، ويُنسب هذا المصطلح إلى الكاتب الروائي النمساوي الذي ارتبطت باسمه هذه الظاهرة؛ وهو ليبولد زاخر مازوخ (1895-1836) روائي وصحفي نمساوي درس القانون والتاريخ وتعلق بالأدب، وكتب العديد من الروايات والقصص، وكان مثقفًا وكاتبًا كبيرًا ومناضلًا؛ إذ شارك في بعض الثورات والحروب التي عصفت بعصره.

وتُصنف المازوخية العامة كإحدى حالات ما يصطلح عليه في علم النفس بالسلوك الهادم للذات Self-Defeating Behavior؛ وهي أن يُؤدي الشخص أمورًا أو يضع نفسه في مواقف قد يعلم مسبقًا أنها ستعود إليه بالفشل والحرمان والإذلال، ومع ذلك يجد هذا الشخص متعةً وراحةً خفيةً في فعل هذه الأمور؛ أي إنه يعشق تمثيل دور الضحية والمظلوم والمحروم على الرغم من شكواه وتذمّره الظاهري من ذلك.

وبعد هذا العرض السريع لتعريف كلٍّ من المصطلحين اللذين وجب ذكرهما؛ فما الفلسفة السادية والفلسفة المازوخية؟

لقد ارتبط هذان المصطلحان بدايةً بالجنس، واستخدمتهما مدرسة التحليل النفسي في تفسير كثير من مظاهر السلوك البشري؛ ولكنهما قد انتقلا بعد ذلك إلى علم النفس الاجتماعي ثم إلى علم الاجتماع وأخيرًا إلى ميدان الفلسفة السياسية.

تحولت السادية والمازوخية إلى نظرية في علم النفس على يد سيجموند فرويد (1856-1939)، وتحولت كذلك إلى نظرية في الأدب فأصبح مصطلح السادية مثلًا يدلُّ على الفلسفة المادية الحسية التي اعتنقها كثير من أدباء القرن الثامن عشر في فرنسا، ولا سيما فلاسفة الموسوعة من أمثال كوندروسيه ودنيس ديدور وغيرهما.

وهي فلسفة تذهب إلى أن العالم عبارة عن مادة في حالة حركة مستمرة، وليس باستطاعة الإنسان أن يدركها إلا عن طريق حواسه، ومن ثم فعلى الإنسان -في رأي هذه الفلسفة- أن يُدرِّب حواسه باستمرار ليكون على دراية تامة بطبيعتها، ولكي يُدرك المبدأ الحقيقي للإنسان؛ فهذه الفلسفة هي مظهر من مظاهر سعي الإنسان وراء الحقيقة في ضوء فطرته.

ويرى الماركيز دي ساد أن الإنسان بفطرته ليس خيِّرًا؛ وإنما هو بالطبيعة عنيف وقاسٍ، والعودة إلى الطبيعة تعني الارتداد إلى هذه القسوة بإثارة ما في كوامن النفس من غرائز عنيفة. والملاحَظ أن هذه الفلسفة تعدَّت حدود القرن الثامن عشر وأثرت في الحركة الرومانسية في أوروبا حتى العقد الأخير من القرن التاسع عشر وأدت دورًا مهمًّا في المدرسة الرمزية في فرنسا كذلك؛ إذ لم تكن السادية كلها ممارسة جنسية عملية يسودها العنف فحسب؛ بل كان لها جانب نظري، وتمثّل ذلك في مؤلفات الماركيز دي ساد ذات المحتوى العنيف، وأهم هذه المؤلفات روايته الشهيرة جوستين وجوليت والمعروفة أيضًا باسم لعنة الفضيلة ونعمة الرذيلة؛ وهذا على حد سواء مع المازوخية وروايات مازوخ وكتاباته.

وهناك أمثلة كثيرة عن قادة وحُكَّام مارسوا الفلسفة السادية وطبقوها؛ فخير مثال عن ذلك تاريخيًّا هولاكو؛ إذ كان تنكيله بالبلاد التي مر بها جيشُه تجسيدًا لساديته. ويُقال عن هتلر كذلك بأنه مارس الفلسفة السادية طوال فترة حكمه؛ إذ طمح أن يعلي من مكانة العِرق الآري وضرورة سيادته وتفوقه على الأعراق الأخرى في العالم، والتي هي أقلّ شأنًا منه بالضرورة. وربما كانت هذه العلاقة أوضح ما يكون في حقل السياسة، وقد صورها الأديب الأمريكي هيمنجواي بالحاكم الظالم الجبار على شعبه، فيقرر الشعب ترك المدينة له والذهاب إلى العيش في غابة، فيستيقظ الحاكم ليجد نفسه وحيدًا ويعلم أن شعبه يعيش في الغابة، فيذهب إليهم ويلحُّ عليهم في العودة واعدًا ألا يعود إلى الظلم مرة أخرى أبدًا فهو لا يكون ملكًا ولا حاكمًا دونهم (كما تروي القصة أيضًا إحدى مسرحيات فيروز). وهي كلها أفكار مأخوذة من فكرة هيغل عن جدل السيد والعبد طوال التاريخ؛ فإن السادية والمازوخية تُمثلان ضربًا من ضروب الحكم السياسي الذي يقوم على أساس المُتسلِّط (وهو الحاكم) والخاضع (وهو المحكوم)؛ أي إن هناك ارتباطًا وثيقًا بين المصطلحين أو بين النزعة السادية المتسلطة التي تفرض سيطرتها على شخص أو مجموعة من الأشخاص، وبين النزعة المازوخية التي تستسلم، بل وتستعذب الألم الذي يقع عليها. وهذا ما يُبرِّر جمعهما في مصطلح واحد هو ما نسميه بالعلاقة السادومازوخية؛ وهي العلاقة التي يكون فيها الطرف الأول قوة مسيطرة متسلطة تفرض إرادتها، في حين يكون الطرف الثاني شخصية مستسلمة خاضعة.

وقد أثار سقراط قبل ذلك في القرن الرابع قبل الميلاد -في إحدى محاوراته التي عُرفت بمحاورة فيدون وهي التي تربط بين اللذة والألم- هذه العلاقة الثنائية بين السادية والمازوخية من زاوية فلسفية، وسواء اتفق العلم أم اختلف مع آرائه؛ فقد فتح مصطلحا السادية والمازوخية بابًا واسعًا للتأمل في ظاهرة قديمة وملازمة بدرجة أو بأخرى للحياة الإنسانية. فلا بد من القول أن هناك فلسفة في تلقي الألم والمعاناة أو إلقائها، فيختار قسم من الناس ذلك ويستسلم للظرف الذي هو فيه، وهذا ما يندرج تحت كلمات كالتضحية أو اليأس أو الواجب أو اللامبالاة. وفي الكفة الأخرى كذلك؛ قسم يعتريه شعور العظمة والفخر والقيادة وتعظيم الأنا. إن شعورَي الهزيمة والنصر ليسا -فقط- نتيجة عدم تساوي القدرات المادية بين الطرفين (أي بين الأقوى والأضعف) بل يأتي المقام الداخلي في قرار الهزيمة أو النصر داخل كل منا أمام ظروف الحياة هو المعيار الأساس لكليهما.

إن في السادية والمازوخية فلسفة لا تقلُّ أبدًا في مستوى التحليل والملاحظة والواقع عن غيرها، إنها قريبة ونكاد نلامسها يوميَّا وإن تراوحت نسبتها ومقدارها ومدولاتها. ويُصنِّف بعض الكتاب والمحللون المختصون بدراسة طبيعة الشعوب قائلين إن هناك شعوبًا خُلقت لتسود وتحكم، وأخرى خُلقت لأن تخضع وتُنفِّذ الأوامر. إن هذا التصنيف الذي اختلف فيه المفكرون بين مؤيد ومعارض له لا يكاد يخلو من الصحة إن رأيناه في دائرة واسعة تجعلنا نتجرَّد من فكرة أنَّ السادية أو المازوخية هي مرض واضطراب نفسي وشذوذ جنسي، وهذا بالطبع إن كانت ردود الفعل في الإطار المعقول.

هل سألنا يومًا: لماذا مرَّ أكبر عظماء التاريخ بمِحَن مختلفة تتباين في قسوتها وعلى الرغم من ذلك تابعوا حياتهم وحققوا نجاحات باهرة؟ في حين أن هناك أشخاصًا آخرين لديهم مستوى القدرات العقلية نفسه مروا بحياتهم في مطبَّات مختلفة قد اعتزلو الحياة والعمل!

لكل منهم استراتيجيته لعمل ما يراه صحيحًا وذلك مع ما يتلاءم مع شخصيته، وليس بعيدًا عن هذا السياق إن ذكرنا الشعراء العرب الذين ذاع صيت قصصهم العاطفية مع محبوباتهم؛ إذ لم يكن اختيار جميل البعدَ عن بثينة والوقوف على أطلال ذكرياتهما نتيجةَ معارضة أهلها تقرُّبه منها فقط؛ بل كان له ولها يدٌ في ذلك؛ إذ تكون شعلة الحب والمعاناة من وراء ذلك مُتَّقدة. إنه لغريب! نعم؛ فهناك عدة روايات تُؤكد مثلًا لقاءهما سرًّا وقدرتهما على الهرب في أسوأ الأحوال، ولكن؛ لم يحدث ذلك.

وعدا عن ذلك؛ لماذا يُقدِم البعض على رياضات قاسية فيها حدّ كبير من الخطورة والمجازفة قد تصل إلى الموت؟ وتُقام على ذلك احتفالات وتُحقّق بها مقاييس عالمية.

نستخلص في نهاية مقالنا أن الفلسفة السادية والمازوخية التي شملت ميادين واسعة من العلوم وأنتجت روايات وكتب ونظريات؛ هي موجودة فعلًا ولها مآثر إيجابية عديدة، والتي نظر علم النفس في البداية إلى هذه العلاقة (بين السادية والمازوخية) على أنها تُمثِّل انحرافًا مخالفًا لما يعتقده معظم علماء النفس الآن؛ فيعدُّونها نزعات طبيعية عند البشر، على الرغم من أنها قد تُوجد بصورة منحرفة عند بعضهم. فيقول إريك فروم (1900-1980): إن النزعات السادومازوخية موجودة عند البشر بدرجات متفاوتة في الأشخاص الأسوياء والمنحرفين على حدٍّ سواء. فقد لامستنا هذه الفلسفة ومظاهرُها تاريخيًّا وأدبيًّا وسياسيًّا ورياضيًّا ونفسيًّا.

المراجع:

1- Sadism And Masochism - A Symptomatology of Analytic and Continental Philosophy?- Jack Reynolds- 2006.

2- هنا

3- هنا

4- في الحب والحب العذري،د.صادق جلال العظم،(دمشق:دار المدى).