كتاب > الكتب العلمية

مبدأ الرّيبة... رحلةٌ مع علماء الفيزياء وتعرفٌ على أهم أفكارهم.

يبدأ تاريخ مبدأ الريبة كما يرى الكاتب من اكتشاف عالم النبات "روبرت براون" للحركة العشوائية لحبات إلقاح نبتة البيريليقية في العام 1827 أثناء دراسته لحجمها وشكلها، والتي سميت فيما بعد الحركة البراونية التي لم يستطع براون تفسيرها آنذاك. توالت بعدها محاولات تفسير هذه الحركة بناءً على طرقٍ إحصائية وكانت هذه بداية ظهور التفكير بالعشوائية وإدخال الطرق الإحصائية في الفيزياء، والتي تنبئ عن عدم مقدرتنا على معرفة ما يجري على المستوى المجهري للمادة.

ظهر بعد ذلك بعدة عقود قانون "كلاوزيوس" في الإنتروبية التي تعتبر مقياساً لفوضى جملة ما وعدم انتظامها، وكانت هذه إضافة جديدة للتفكير الإحصائي والعشوائي، إلا أنَّ العلماء آنذاك كانوا يعزون هذه التفسيرات إلى عدم اكتمال معرفتنا حول الذرات التي تعتبر بنية المادة؛ أي أننا وبمجرد معرفتنا لبنية الذرة وكيفية تفاعلها مع الذرات الأخرى في لحظة معينة فسنتمكن من معرفة مستقبلها.

ثم ظهرت النظرية الحركية في الغازات، واستطاع "أينشتاين" تفسير الحركة البراونية بطرق رياضية متينة لأول مرة استناداً لهذه النظرية، ونشر تفسيره في العام 1905. في هذه المرحلة بالذات بدأت نظرية الكم بالظهور، وذلك على يد "ماكس بلانك" الذي أرقه تقسيم الطاقة إلى كمات منفصلة لبقية حياته، فماكس بلانك كما آينشتاين من أنصار الحتمية ورأى أن لا مبرر لتقسيم الطاقة إلى كمات منفصلة سوى على أنها حيلة رياضية للحصول على قانون إشعاع الجسم الأسود.

ثم ظهرت النظريات الذرية على يد "إرنست رذرفورد" ومن ثم "نيلز بور" الذي يعتبر الأب الروحي لميكانيك الكم، وطبق رذرفورد أسلوب تقطيع الطاقة الضوئية إلى كمات على الإلكترونات في انتقالها بين سويات الطاقة في الذرة وهنا اشتد الصراع بين أنصار الحتمية وبين أنصار الاحتمالية: كيف يقرر الإلكترون إلى أين سينتقل؟ ولماذا؟ هل هو احتمال بحت أم أن هنالك سبباً كامناً غير معلوم لنا؟

إضافة إلى ذلك كان الزوجان كوري قد وضعوا قانوناً احتمالياً يفسر التحلل الإشعاعي للعناصر المشعة. كيف يمكن لذرة مشعة أن تقرر أن تتفكك في هذه اللحظة أو تلك؟

في تلك المرحلة أصبح التفسيرات الاحتمالية واقعا مسلماً به لوصف بعض الظواهر الفيزيائية، لكن بقيَ السؤال الكبير، ما تفسير هذا التصرف الاحتمالي؟

يجيب الحتميون وعلى رأسهم آينشتاين عن السؤال، بوجود نقصٍ في معرفتنا للبنية الأساسية للمادة وتفاعلاتها مع بعضها البعض.

يظهر بعدئذ كل من "وولف غانغ باولي" و "فيرنر هايزنبرغ"، اللذان سيضيفان على النظرية الكمومية الكثير، فهايزنبرغ أضاف العدد السبيني إلى الأعداد الكمومية وباولي أضاف مبدأ الاستبعاد. طور هايزنبرغ فيما بعد أثناء قضاءه لعطلته في جوتنجن ميكانيك الكم المصفوفي الذي استطاع أن يصف وبدقة جميع الظواهر الفيزيائية الجديدة آنذاك وكان ذلك في العام 1925.

اعترض الكثيرون على ميكانيك الكم المصفوفي، فهو بنية متكاملة ومتماسكة رياضياً، لكن مجدداً أين التفسير الفيزيائي؟ أين السبب الكامن وراء كل علاقة رياضية تفسر ظاهرة فيزيائية؟ وهل أصبحت الفوضى هي المسيطرة؟

دخل العلماء في حيرة شديدة وجدلية تكاد لا تنتهي، وظهر "شرودنغر" على الساحة مضيفاً ميكانيكاً جديداً رآه بديلاً عن الميكانيك المصفوفي هو الميكانيك الموجي الذي يعتبرُ الإلكترونات موجاتٍ تنتقل بسلاسةٍ بين أوضاع مختلفة (أثبت لويس دوبروي أنَّ الالكترونات عبارة عن موجات).

أراحت نظرية الميكانيك الموجي أنصار السببية، حتى أنَّ آينشتاين أطرى على شرودنغر وعمله في رسالة شخصيةٍ أرسلها إليه. تبين لِشرودنغر لاحقاً أنَّ الميكانيك الموجي والميكانيك المصفوفي لم يكونا سوى وجهين لعملة واحدة مما زاد الطين بلة؛ كيف يمكن للإلكترونات مثلاً أن توصف بواسطة الميكانيك الموجي (الذي يعتبرها أمواجاً) وبواسطة الميكانيك المصفوفي (الذي يعتبرها جسيمات)؟

استنتج "ماكس بورن" فيما بعد أن أمواج شرودنغر ليست سوى أمواج احتمالية. لم يعجب شرودنغر إطلاقاً بتفسير ماكس بورن الجديد وقال إنه إذا تبين أنها فعلاً أمواج احتمالية فسيكون نادماً على أي إضافة أدخلها على ميكانيك الكم. استمر هايزنبرغ بالعمل على تطوير النظرية الكمومية، واستمر تطور الأفكار الثورية، أفكارٌ تقول بأنَّ لا تفسير لغموض الطبيعة على المستوى المجهري سوى أن هذا الغموض هو من الطبيعة ذاتها، فهي لا تريد الإفصاح عن كامل مكنوناتها؛ فَإن استطعت قياس مقدار فيزيائي ما بدقة لن تسمح لك الطبيعة بقياس مقدار آخر بالدقة ذاتها، وهذا ليس قصوراً في معرفتنا فحسب بل خاصة من خصائص الطبيعة الثابتة.ولترسيخ هذا الاعتقاد ظهر في عام 1926م ظهر (مبدأ الريبة) الذي رسخ هذا الاعتقاد.

سلم الجميع بمرور الأعوام لهذا المبدأ ولميكانيك الكم. وحده آينشتاين بقي متمسكاً بآرائه ومعتقداته حول السببية والحتمية، وأن الله الخالق للكون لا يمكن أن يدعه للصدفة فهو " لا يلعب النرد" حتى أنه أخبر هايزنبرغ حين زاره في منزله في برنستون عام 1954، أي قبل وفاته بعام " لا أحبذ هذا النوع الذي تحبذه في الفيزياء ... ثمة اتساق لكنه لا يروق لي ".

إنّه كتابٌ لمحبي الفيزياء ومحبي العلماء الذين ساهموا بشكل كبيرٍ في كلما نعرفه الآن، كتابٌ يروي تصور الكاتب لتطور الأفكار في الفيزياء منذ بدايات القرن التاسع حتى أوائل القرن العشرين، حين وُلِد مبدأ الريبة كخاتمةِ إرهاصات نشوء فكرٍ جديدٍ كلياً في الفيزياء.

" مبدأ الريبة"، كتابٌ يتميز بأسلوبه الممتع في طرح الأفكار، يُعرض الكاتب فيه صراعاً بدأ بين فريقين من العلماء، فريقٌ يعتقد بالحتمية كمذهب علمي، وآخرٌ أصبح مؤمناً بالاحتمالية كمبدأ أساسيٍ في الطبيعة. كما يروي بين صفحاته وبطريقةٍ مميزة تفاصيل حياة بعض العلماء والبيئة الاجتماعية والسياسية التي نشأ فيها كلٌ منهم، كما يتناول الآراء السياسية التي تبناها بعضهم، وتحديداً العلماء الألمان. وستقرأ في نهاية الكتاب كيف انتهت علاقة العلماء ببعضهم البعض عقب الحرب العالمية الثانية وأين انتهى مآل كلٍ منهم إلى أن فارق الحياة.

معلومات الكتاب:

الكتاب: مبدأ الريبة.

الكاتب: ديفيد لندلي.

ترجمة: د. نجيب المحجوب الحصادي.

دار النشر: دار العين للنشر.

الرقم الدولي: 9789776231573.

عدد الصفحات: 315 صفحة.