الطبيعة والعلوم البيئية > علم البيئة

حلّةٌ جديدة لبردى دمشق

استمع على ساوندكلاود 🎧

ذكرنا في المقال السابق عدداً من التجارب العالمية في مجال إعادة تأهيل المجاري النهرية وتحسينها وتحسين بيئاتها هنا كما تناولنا علاقة النهر بالإنسان في مقال سابق ضمن هذه السلسلة هنا.

كان نهر بردى تاريخياً مصدراً شديد الأهمية للمياه في دمشق وحوله مساحة خضراء واسعة هي الغوطة التي كانت مصدراً لغذاء السكان ومحيطاً حيويّاً شديد الغنى، كما أنه كان يُعتبر إرثاً حضارياً وثقافياً ومصدراً للإلهام في العديد من الأشعار التي تضمنت ذكره. أما في السنوات الأخيرة فقد عانى النهر تدهوراً شديداً نظراً لـ :

- كميات التلوث الهائلة مقارنة بقدرة النهر على التنقية الذاتية.

- التغير المناخي والانخفاض الشديد في هطول المنطقة المحيطة.

- شبكة مياه شرب مدينة دمشق والتي تستغل معظم مياه الفيجة والينابيع الأخرى.

لن نسهب كثيراً في الحديث عن نهر بردى وتاريخه وفروعه المارة في مدينة دمشق، ولكن إذا كنت من المهتمين يمكنك متابعة مقالنا السابق عن نهر بردى هنا

تمتد المنطقة المستهدفة في هذا البحث (المقترح) بين ساحة الأمويين ومنطقة جسر فيكتوريا بطول نحو 1.2كم وتُعتبر قلب العاصمة دمشق ويحيط بالنهر عدد من المنشآت والمباني شديدة الأهمية؛ تتنوع بين المنشآت الخدمية، الثقافية، التاريخية والسياحية.

تم على هذا الجزء من المجرى سابقاً عملية تنظيم لتحسين المظهر العام للنهر وحماية الضفاف وتدعيمها وأثناء التصميم تم اقتراح تشكيل قناة صيفية تسمح باستمرار مرور الجريان في النهر حتى عند مرور القيم الصغرى للغزارة بحيث لا تصبح مياهاً راكدة ومصدراً للحشرات والروائح. وقد أثبتت هذه القناة فعاليتها خلال العقد الأخير.

يكون النهر مغطى في جزءه المار تحت ساحة الأمويين ويمر بعدها بخمسة جسور (الصورة أدناه) هي جسر المسرح القومي وجسر قصر النبلاء وجسر الرئيس الأول والثاني وجسر التكية ليصل النهر بعدها إلى منطقة جسر فيكتوريا ويعود مغطىً مرةً أخرى.

يبلغ عرض المجرى في هذه المنطقة نحو 20 متراً بعمق مترين ونصف المتر إلا أن عمق المياه خلال العقد الماضي لم يتجاوز النصف متر في معظم الفترات وتشكل هذه المنطقة واحدة من أكثر المسارات ازدحاماً في مدينة دمشق حيث أنها تصل بين عقدتين من أهم العقد المرورية في المدينة وفي حال بقاء النهر بوضعه الراهن فليس من المنطقي ولا من الكفاءة إشغال مقطع بعرض 20 م على طول 1200 م لمرور غزارة لا تزيد عن متر مكعب واحد في الثانية معظم أيام السنة.

مالذي يمكن أن نفعله في هذا الجزء من المجرى لتحسين استثمار المنظومة النهرية دون التأثير سلباً على قدرة النهر على نقل المياه خاصةً في فترات الغزارة العالية؟

يتضمن المُقترح إجراء تعديلات تتضمن المقطع العرضي للمجرى والضفة اليمنى المحاذية للمتحف الوطني والتكية السليمانية ومبنى وزارة السياحة ويتمثل المقترح بالنقاط التالية:

- تحويل الضفة اليمنى للنهر إلى حديقة بعرض يقارب 20 متر وتخفيض منسوب الضفة فيها بشكل تدريجي مع الاقتراب من وسط النهر بحيث يصبح من الممكن الوصول لمجرى النهر في نقاط محددة.

- لا يسمح للمياه بالتوقف عن الجريان في هذا الجزء وذلك بإنشاء خزان صناعي في آخر نقطة من هذه المنطقة بحجم ملائم وضخ المياه باتجاه أعلى النهر حتى ساحة الأمويين وذلك في فترات الجفاف الشديد، يمكن تقسيم الخط الراجع إلى عدة أجزاء كل منها يعتمد على خزان خاص ويمتلك آلية تنظيف وتنقية للمياه.

- العمل على تغطية جزء كبير من مجرى النهر بظل الأشجار الملائمة أو باستخدام ألواح الخلايا الشمسية والغاية من ذلك تقليل التبخر إلى الحدود الدنيا الممكنة وتحسين المظهر العام. ويتوجب اختيار نباتات ملائمة تتحمل الظروف الجوية القاسية وتعطي مظهراً لائقاً وتحقق العديد من الشروط الملائمة لموقعها في مركز المدينة.

- يتيح هذا البديل حلاً إضافياً لمشكلة المرور في المدينة باستخدام مسار خاص بالمشاة والدراجات الهوائية كما يمكن العمل على استثمار المشروع إعلانياً بنشر عدد من اللوحات الإعلانية ذات المظهر اللائق.

- استثمار المشروع تجارياً من خلال العمل على جذب الاستثمارات المختلفة والسماح بأكشاك مرخصة ذات مظهر حضاري

- العمل على إحداث اتصال بين هذا المشروع ومشروع وردة مسار الذي يتم تنفيذه حالياً وتحقيق الاتصال مع منطقة المتحف الوطني والتكية السليمانية.

- دراسة إعادة إحياء الخط الحديدي المحاذي للنهر بين منطقة المرجة والربوة وتحديد المنسوب الملائم للسكة الحديدية والبعد الملائم لها عن مجرى النهر.

وبما أن "صورة واحدة تغني عن ألف كلمة" يمكن إجمال هذه المقترحات في الشكلين التاليين:

شكل المجرى المعدل عند مرور الغزارة 1 م3/ثا

شكل المجرى المعدل عند مرور الغزارة 10 م3/ثا

عند النظر إلى هذا المقترح نجد أن أهم ما يواجهه من صعوبات وعقبات هو مايلي:

- ارتفاع تكاليف الإنشاء وصعوبة التنفيذ نتيجة الحاجة لأعمال حفر وإكساء مع الاهتمام بعدم التأثير على المنشآت المحيطة بالمجرى وخاصة التاريخية التي قد تتأثر نتيجة الأعمال الهندسية المرافقة

- الحاجة للحصول على موافقة عدد كبير من الجهات المعنية صاحبة المنشآت القريبة من مكان التنفيذ.

- الحاجة إلى تسويق المقترح وإقناع الجهات صاحبة العلاقة بجدواه العملية والاقتصادية إضافة لتسويقه لدى الرأي العام.

وبالرغم من هذه العقبات إلا أن البدائل المقترحة تقدم كذلك فرصة يتوجب اغتنامها لتطوير مركز المدينة وأحد أهم شوارعها ليس من الناحية الجمالية وحسب بل أيضاً من حيث ما تقدمه من فوائد إضافية كطرق المواصلات الرديفة والاستثمار الإعلاني والتجاري. من أهم الإيجابيات التي يقدمها البديل المقترح في حال تنفيذه:

- حل إضافي للازدحام المروري من خلال ثلاثة مسارات إحداها للمشاة والثانية للدراجات الهوائية والثالثة يمكن تخصيصها لإنشاء سكة حديدية. وجميع هذه المسارات صديقة للبيئة.

- إعادة الاعتبار لنهرِ بردى وإعطاؤه حلّة جديدة بالاعتماد على النوافير والخطوط الراجعة للمياه إضافة لتزويده بنطاق أخضر مطل عليه مما يعني تحسين المظهر الجمالي ككل.

- تقليل مستويات التلوث:

o السمعي الناتج عن تقليل الاعتماد على السيارات.

o البصري الناتج عن الفضلات الصلبة والمياه الآسنة التي كانت تشغل حيزاً من مقطع النهر.

o الهوائي نتيجة الاعتماد على وسائل مواصلات صديقة للبيئة.

- إمكانية الحصول على مردود اقتصادي للمسار المقترح من خلال:

o تزويد أجزاء محددة من المسار بأكشاك نظامية على مستويات آمنة يتم تأجيرها.

o تزويد المسار بلوحات إعلانية ذات مظهر لائق يعود ريعها لأعمال الصيانة.

o إقامة فعاليات دورية تدعم استمرارية المشروع وتسوق لمشاريع مماثلة برعاية مؤسسات وشركات مختلفة.

- الجانب الترفيهي والثقافي والاجتماعي.

كلمة أخيرة:

إن الاستثمار الأمثل لمواردنا المختلفة وتحسين علاقة مجتمعنا ببيئته، يجب أن يجد له مكانا في سياساتنا وأفعالنا. لا يكفي بحال من الأحوال التركيز على جزء من مجرى نهر بردى لمجرد كونه ماراً في مركز المدينة بل يتوجب إيلاء نفس الدرجة من الأهمية لكافة أجزاء النهر بل ولكافة الأنهار والمياه التي تجري فوق أرضنا.

ولربما كان هذا الوقت الملائم لجمع الأفكار البناءة فإن كنت من سكان دمشق القدامى أو الحاليين اكتب لنا رأيك في التعليقات وإن كنت من أي مكان آخر أعطنا رأيك فيما يتوجب فعله عند التعامل مع الأنهار في منطقتك.

المصدر:

وائل غدا "مشكلات تنظيم مجاري الأنهار في سورية – دراسة حالة" رسالة ماجستير، جامعة دمشق 2014

ملاحظة: يتضمن البحث الأصلي تحديد مناسيب المياه المقابلة لعدة غزارت في ثلاثة مناطق من مجرى نهر بردى واقتراح بعض التعديلات عليه باستخدام نظام التحليل النهري HEC-RAS.