الموسيقا > القوالب الموسيقية

مدخل إلى القوالب الموسيقية، الجزء الأول، الفكرة العامة.

لا بُدَّ  قبل الحديث عن القوالب الموسيقية من أنْ نلفتَ النَّظرَ إلى أنَّها مَحضُ تحليلٍ سمعيّ للموسيقا من حيث الحركة اللحنيَّة أو الإيقاعيَّة أو حركة النَّسيج الموسيقيّ المتكامل، وهي بذلك لا تسبق الموسيقا من حيث التأليف وكيفيَّة خلق هذا النسيج، فإنَّ الطبيبَ لايَخلُق إنسانًا، بل يَدرسُ كيف خُلِق وما سبب شذوذ نشاط الجسد وكيف يُعالَج، فكذلك لا يَخلقُ النظريون الموسيقيون الموسيقا، بل يَدرسون كيف خَلقَها مؤلِّفُها، وما سبب شذوذها عن المألوف، وما يكون المألوف، ولماذا؟ وكيف يُعالَج غير المألوف ليصبحَ مألوفًا ومتوازنًا؟

ومما لا شكَّ فيه أنَّ الموسيقا؛ وإن كانت أحد الفنون الأصيلة؛ لا تعبّر عن الجمال بكونه صفة وجودية فحسب، وإنّما تعيد تشكيله وتبدع فيه؛ وبمعنىً آخر؛ تمثل القيمة الجمالية في الموسيقا بعدًا آخر قائمًا على السمع والعناصر الزمنية والإيقاعية وغيرها، ويَعكِف معظمُ الموسيقيون الأكاديميّون إلى دراسة القوالب الموسيقية وتحليلها لإنتاج أعمال فنيَّة أكاديميَّة ذات تركيبة محدَّدة تُقدِّم أفكارًا وأعمالًا موسيقيَّة ذات صبغة وطبيعة محدَّدتَين مثل أعمال "باخ وموتسارت وبتهوفن" التي كانت نتيجةَ معرفةٍ كبيرةٍ ودرايةٍ واسعةٍ في هذه القوالب.

دعوني أطرح مثالًا بسيطاً، فأغنية "سهار بعد سهار" للسيدة فيروز:

وهي مبنيَّة بناءً أساسيًّا من لازمة، وهي الفكرة الأساسيَّة في لحنها وكلماتها، ومقاطع مختلفة عن بعضها في اللحن والكلمات فيكون المخطط:

وإذا فرضنا أنَّ اللازمة هي A والمقطع الأول هو B والثاني C فيكون الترتيب:

أي إنَّ القالب صار من اليسار إلى اليمين: A، B، A، C، A وهو ترتيب قالب الروندو في الموسيقا الكلاسيكية. وهذا ما نجده على نحوٍ متطوّرٍ أكثر في الموسيقا الأكاديميَّة الأوروبيَّة كما افتتاحية أوبرا كارمن ولكن مع تباينٍ أكبر بين الأجزاء.

هنا يُمكن أن أُعرّفَ القوالبَ الموسيقيَّة: بأنَّها تعميمٌ لأشكالِ التوازن في العمل الموسيقيّ، ولكنها لا تشمل تنظيمَ أجزاءِ العمل الموسيقيّ أو تأطيرها فقط؛ بتحديدِ طولِ كلّ جزءٍ وتناسبه مع الآخر، بل تمسُّ جوهر الموسيقا نفسه أيضًا، وأحيانًا على حسابِ تنظيمِ الأجزاء، ويكمن هذا الجوهر في التَّباين باختلافِ درجاته بين القوالب الموسيقيَّة، فكلَّما كَبُر القالبُ الموسيقيّ ازداد التَّباين ووصل العملُ إلى ذروةٍ ناتجةٍ عن تطوَّرٍ يختلفُ شكلُه تِبعاً لاختلافِ القالب.

وفي أغنية فيروز نستطيع أن نلمسَ تبايُنًا بسيطًا بين المقطعين الأول والثاني وبين المقاطع واللازمة ذات الطابع المستقر أيضًا، أمَّا في افتتاحية أوبرا كارمن فنستطيع أن نلمسَ تباينًا أكبر بين اللازمة والمقاطع وبين المقطع الأول والثاني أيضًا.

ولكن ما الفائدة من تحليل أي عمل موسيقي؟ هل ستصبح أغنية فيروز أو افتتاحية أوبرا كارمن أجمل إذا عرفنا القالب؟

أظنُّ أنَّ تحليلَ القوالب الموسيقيَّة له أهميَّةٌ كبيرةٌ بالنسبة إلى الموسيقيين لأنَّه إحدى أهم الوسائل لدراسة سمات عصرٍ موسيقيّ أو نمطٍ موسيقي محدَّدٍ، وهذا ما سيساعدهم في تطوير أساليبهم فيما بعد، وتُضيف إلى المستمع متعةً تتبع الألحان والنغمات التي تتباين وتتغيَّر وتعود بأشكالٍ مختلفةٍ.

يبقى لي أن أَفصلَ بين شكل القالب وجدية الموسيقا، إذ إنَّ القالب الكبير المعقَّد لا يعكسُ بالضَّرورة جديَّةَ الموسيقا أو أهميتها وعظمتها، ولا جديَّةُ الموسيقا تتطلب بالضرورة قوالب كبيرة معقَّدة، وذلك تمامًا مثل المسرح الذي لا تُقاس فيه أهميَّة العمل المسرحي بعدد الممثلين أو طول العرض بالرسالة التي يقدِّمها والنَّصُ الجيّد إضافةً إلى حرفية الأداء، فكلُّ قالبٍ يُمكن أن يتطوَّرَ، كما معظم قوالب الموسيقا الكلاسيكية الغربية التي تطوّرت نتيجة لتطوِّر هذه الموسيقا وصارت أكبر وأوسع لتلبِّي هذا التطور، أمَّا قوالب الموسيقا الشعبيَّة فقد حافظت على بساطتها نسبيًا، إذ إنَّ عفويةَ الموسيقا الشعبية واعتمادها الكبير على الارتجال والتَّفريد حَدَّ قليلًا من تطور قوالبها، لذلك فإنَّ "دق الماني" لها قالب موسيقي يشبه قالب الروندو في الموسيقا الكلاسيكية -الذي تحدَّثتُ عنه في بداية المقال-، إذ إنَّ فيها لازمة تتكرَّر على طولِ العملِ، وهو مقطع الغناء الذي يبقى لحنه ثابتًا لكن تتغيَّر كلماتُه من مرةٍ لأخرى، وفيها مقاطع مثل BوC في قالب الروندو وهي الموسيقا التي بين المقاطع المغناة، وهذه المقاطع الموسيقيَّة تختلف فيما بينها باختلافات بسيطة، وقد أخذت المقاطع الموسيقيَّة هنا دور المقاطع B،C في الروندو لأهميَّتها بالنسبة إلى وظيفة هذا العمل وهي جعل المستمعين يتفاعلون ويؤدون رقصةً جماعيَّةً موحَّدةَ الخُطا هي "الدبكة"، وهناك قوالبُ لها ميزات مختلفة تلبِّي أغراضًا أخرى كالتَّأمل الذي يحتاجُ إلى قوالبَ طويلةٍ يكون فيها التَّطور بطيئًا، فلا يمكنك أنْ تتأمَّل على أنغام "دق الماني" ولا يمكنك أن تدبك (تؤدي رقصة شعبية) على سوناتا "ضوء القمر" لبيتهوفن.

لقد كان هذا تعريفًا متواضعًا للقوالب الموسيقيَّة وهو بداية لسلسلة من المقالات التي ستتناول أهم القوالب في الموسيقا الغربيَّة والعربيَّة، وتخوض في تفاصيلها وفي جمالياتها.

تابعونا في مجموعة من المقالات ضمن هذه السلسلة للتعرف إلى أشهر القوالب الموسيقية.

المراجع:

Clemens Kühn، Formenlehre، Kassel، 2010

Wolfgang Stockmeier، Formlehre، 1996

هنا