الطبيعة والعلوم البيئية > علم البيئة

إعادة تأهيل الأنهار وبعض التجارب العالمية

رأينا في المقال السابق هنا تطور العلاقة التاريخية بين المجتمع البشري والنظام النهري، ونتابع في مقال اليوم نشوء عدد من المفاهيم التطبيقية الناتجة عن زيادة وعي الإنسان لأهمية علاقته بالأنهار والبيئة بشكل عام، كما نضطلع على عدد من التجارب العالمية في تحسين النظام النهري والتي تستحق اهتمامنا.

تسبب التطور الطبيعي للمناطق الحضرية القريبة من الأنهار بعدد من المشاكل للنظام النهري منها:

1- التصريف السيء: تتجه المياه عند سقوط الأمطار على السطوح الصلبة إلى مجرى النهر مما يؤدي إلى زيادة الغزارة بشكل سريع وارتفاع المنسوب بالتالي يهدد بحدوث فيضان في المناطق الأدنى على مجرى النهر كما قد تدخل مياه الأمطار هذه إلى شبكات الصرف متسببة بأضرار كبيرة.

2- استخدام الأراضي المعرضة للغمر لأغراض سكنية أو زراعية يعني أن الآثار الناجمة عن الفيضان تصبح أكثر كلفة من حيث الأرواح والماديات.

3- عدم أخذ أثر التغييرات والإنشاءات التي يتم تنفيذها في جزء ما من النهر على بقية أجزائه، مما يؤدي إلى ارتفاع أو انخفاض المنسوب وعدم القدرة على استخدام المياه في مقاطع النهر التي حصل فيها التغيير غير المخطط له.

4- التناقص التدريجي للغزارة وجفاف النهر بنتيجة استخدام مياهه لأغراض الشرب أو الزراعة أو للأغراض الصناعية.

5- التلوث بمصادره المتنوعة السكنية والزراعية والصناعية بكل ما تحويه من مخلفاتٍ، أسمدة، مبيدات ومواد كيماوية تنتقل وتتراكم على طول النهر تقتل ما فيه من أحياء وتهدد البيئة في كل المناطق التي تصل إليها مياه النهر(M.B. Phillips 2006).

ومع التطور العلمي المرافق لتطور المجتمعات الإنسانية نشأت الهندسة النهرية والتي تشمل التطبيقات العملية الناتجة عن فهم العلم لطبيعة العمليات النهرية وسلوك الأنهار(Remus 2010). ونشأ في إطار ممارساتها مفهوم تنظيم مجاري الأنهار والذي يعرف بأنه الإجراءات التي تتخذ لتحسين قنوات وفروع النهر لتصبح قابلة للاستخدام وفقاً لاهتمامات الاقتصاد الوطني (A.S. Goodman & D.C Major 1984) بحيث تحقق ظروفاً ملائمة للملاحة النهرية والنقل وتأمين المنسوب الملائم في نقاط المآخذ المائية وحماية المناطق الزراعية والسكنية خلال فترة ارتفاع المنسوب والفيضانات وحركة أبطأ للرسوبيات عبر النهر وانسياباً ملائماً للماء إلى المنشآت المائية المختلفة.

استمرت الأنهار بالحياة مع استمرار وجود المدن إلا أن تصرّفاتنا الخاطئة حملت الكثير من التأثيرات السلبية على الأنظمة النهرية فعلى سبيل المثال:

- تم تصنيف أكثر من 45% من أنهار الولايات المتحدة على أنها مهددة نتيجة لنشاطات النمو الحضري (Simsek 2012)

- تبقى نسبة 20% فقط من الأنهار في ألمانيا على حالتها الطبيعية دون تغييرات كبيرة، مما أدى لمشكلات تتعلق بنقص الفاعلية الاقتصادية للنهر والتلوث ونقص المساحات الخضراء ومخاطر الفيضانات (RESTORE 2013)

- لم يتبق أكثر من 10% من الأنهار في سويسرا في حالة طبيعية أو قريبة من الطبيعية (Swiss Agency for the Environment 1997)

ومع ظهور مفاهيم التنمية البيئية والتنمية المستدامة والتركيز على تطبيقاتها العملية اكتسبت إعادة إحياء الأنهار اهتماماً خاصاً وبدا ذلك أكثر وضوحاً خلال العقدين الأخيرين ومن الضروري في هذا الإطار التمييز بين مفهومي إعادة التأهيل “Rehabilitation” والاستعادة"Restoration” (Simsek 2012):

- الاستعادة“Restoration” : المعنى الحرفي لكلمة استعادة هو العودة بالشيء إلى حالته السابقة التي كان عليها في نقطة زمنية مضت وفي مجال الأنهار تعني استعادة النهر العودة بالنظام النهري إلى ظروفه الطبيعية السابقة بكل ما يتضمنه ذلك من نوعية مياه وحياة طبيعية وشكل للمجرى قبل حدوث التأثير البشري عليه وذلك أمر أصبح شبه مستحيل التطبيق واقعياً في معظم الأحيان. (F.D. Shields et al. 2003)

- إعادة التأهيل “Rehabilitation” إعادة تأهيل النهر تعني إعادة جريانه ونظامه الحيوي إلى أقرب حالة تسمح له بمتابعة وظائفه الحيوية وخاصةً التنقية الذاتية (F.D. Shields et al. 2003) وأكبر المشاريع في هذا المجال هي إعادة تأهيل نهري الدانوب والراين حيث كان معيار النجاح في هذه المشاريع هو عودة نوع معين من الأسماك للوجود في مجرى النهر (I.D. Rutherfurd et al. 1998)

والفرق الأساسي بين هذين المفهومين هو أن إعادة التأهيل لا تتطلب استعادة كاملة للبنية كما هو الحال في الاستعادة بل المهم هو تحسين ظروف الجريان وقدرة النهر على أداء وظائفه الطبيعية والبيئية، إضافة للحاجات البشرية والوصول إلى حالة مثلى واقعية في آن واحد (J. Schanze et al. 2004)

تجارب عالمية في إعادة تأهيل المجاري النهرية:

نستعرض فيما يلي وباختصار شديد عدداً من المشاريع المميزة في مجال إعادة تأهيل الأنهار والتي وضعت في مقدمة أولوياتها الجانب البيئي والاجتماعي:

• يعتبر مشروع إعادة إحياء نهر شيونغ غي شيون Cheonggyecheon في سيؤول كوريا الجنوبية واحداً من أهم وأنجع عمليات إعادة إحياء الأنهار في العالم حيث تم بموجب هذا المشروع والذي امتد من 2000 وحتى 2005 معالجة عدد من القضايا البيئية والاجتماعية والاقتصادية في آن واحد. تضمن المشروع إزالة طريق سريع مكتظ يتضمن 12 مساراً واستغلال المساحة التي كان يشغلها لاستعادة النهر بطول 5.8 كم وبكلفة 280 مليون دولار (RESTORE 2013) . وقد عانى النهر قبل المشروع من التلوث وانعدام الحياة الطبيعية وبعد فترة تحضيرية تضمنت رصداً للرأي العام حول مستقبل النهر والطريق السريع تم إقرار المشروع وتنفيذه مما حقق الفوائد التالية: (Young-Nam 2005)

أ‌- إعادة إحياء وتجديد للمنطقة ككل

ب‌- نمو اقتصادي وجذب للسياح

ت‌- إمكانية الوصول للنهر مما يتيح الصيد والسباحة

ث‌- الاهتمام بالنشاطات التعليمية المتعلقة بالنهر

ج‌- إبراز العناصر الثقافية والتاريخية ضمن المشروع

ح‌- تحسن بيئي ملحوظ

خ‌- تحسن نوعية المياه والهواء

د‌- انخفاض واضح في درجة الحرارة بالمنطقة "وسطي 3.6̊"

• نهر الباسيج “Pasig River” في مانيلا – الفيليبين يعد واحداً من أكثر المشاريع طموحاً لإعادة إحياء النهر المار بوسط مانيلّا، حيث تم توجيه مخلفات الصرف الصحي بكميات هائلة إضافة للنمو الصناعي السريع بدون ضوابط بيئية مما أدى لإعلان الموت البيئي للنهر في بداية التسعينات ثم وبفضل الجهود المبذولة من عدد من المنظمات البيئية والعالمية بدأ النهر بإظهار آثار الحياة مجدداً (Helmer 1997) . توضح الصورة هذا النهر قبل وبعد إعادة التأهيل

بالنسبة للعقبات التي واجهت المشروع في مراحله الأولى تم حصرها بضعف التكنولوجيا المتوفرة والإجراءات البيروقراطية وضعف التمويل، أما النقاط التي أهلت الموضوع وساعدته على تحقيق خطوات أولى ناجحة فتمثلت بتعاون الجهات الصناعية وقدرتها على تنظيف مخلفاتها المائية قبل صرفها إلى النهر، وكانت هذه الجهات مضطرة للتعاون تبعاً لمجموعة من القوانين التي تم إحداثها ووضعها موقع التطبيق ويمثل هذا المشروع تجربة ناجحة للتعاون بين الجهات الرسمية والأهالي وأصحاب المصانع والجهات الدولية للقضاء على مصادر التلوث والوصول بالنهر إلى مستوى مقبول من النظافة كما هو مبين بالصورة.

• كمثال آخر نجد نهر سبو في مدينة فاس بالمغرب والتي تعتبر واحدة من المواقع المعتمدة كإرث للحضارة الإنسانية من قبل اليونسكو، إلا أن الزيادة السكانية في المدينة وإهمال السلطات القائمة للنهر حوّله إلى مصرف صحي كبير على الرغم من أن مياهه كانت تستخدم سابقاً للشرب (H. Radoine 2008) وللتخلص من روائح التلوث الشديدة تم وعلى دفعات منذ العام 1952 تغطية أجزاء كبيرة من النهر وبدأ مشروع إعادة التأهيل بهدف كشف النهر مجدداً بالاعتماد على منحة مخصصة لهذا الغرض وتم تطوير المشروع لاحقاً ليتضمن تنظيف النهر وزيادة المساحات المفتوحة والمتاحة للسكان على ضفاف النهر وقد تلقّى المشروع عدداً من الجوائز العالمية الهامة وبالرغم من أن المشروع لم يتم إتمامه حتى الآن إلا أنه يقدم درساً مهماً في ضرورة الحفاظ على المرونة لدى تنفيذ المشاريع وأخذ المفاهيم البيئية والاجتماعية بالحسبان ويمكنكم متابعة لمحة عامة عن المشروع في الرابط التالي "مع التعليق باللغة العربية" هنا

يوضح الشكل نهر سبو قبل بدء العمل والشكل النهائي المخطط له

توجد العديد من الأمثلة العالمية الناجحة والتي يمكن الاقتداء بها، فما هي الأفكار التي تستحق برأيك أن نتبعها عند التفكير في تنظيم مجاري الأنهار في بلداننا؟ اكتب لنا اقتراحك في التعليقات وترقب في المقال المقبل حديثاً عن نهر بردى في مدينة دمشق.

المراجع:

- Bruce M. Phillips (2006): Integrating Urban Design for Creek Restoration Projects هنا

- Remus، John (2010): River Engineering: Past، Present And Future. A Comprehensive Systems Approach هنا

- Goodman، A.S. & Major، D.C. (1984): Principles of Water Resources Planning. New Jersey: Prentice-Hall. هنا

- Swiss Agency for the Environment، Forests and Landscape (BUWAL) (1997): Umwelt in der Schweiz (The Environment of Switzerland). Bern، Switzerland.

- Simsek، Gul (Ed.) (2012): Urban River Rehabilitation as an Integrative Part of Sustainable Urban Water Systems. 48th ISOCARP Congress 2012. Turkey. Turkey. هنا

- RESTORE (2013): Rivers by design. Available online at هنا

- Rutherfurd I.D.، Ladson A.، Tilleard J.، Stewardson M.، Ewig S.، Brierley G.، Fryirs K. (1998): Research and Development Needs for River Restoration in Australia. Canberra. هنا

- Shields F.D.، Copeland R.R.، Klingeman P.C.، Doyle M.W.، Simon A. (2003): Design for Stream Restoration vol. 129، pp. 575–584. هنا

- Schanze J.، Olfert A.، Tourbier J.T.، Gersdolf I.، Schwager T. (2004): Existing Urban River Rehabilitation Schemes. Dresden. هنا

- Helmer، Richard; Hespanhol، Ivanildo (1997): Water pollution control. A guide to the use of water quality management principles. 1st ed. London، New York: E & FN Spon هنا

- Young-Nam LEE (2005): Cheonggyechon Restoration And Urban Development. Available online at هنا

- Hassan Radoine (2008): Urban Conservation of Fez-Medina: A Post-Impact Appraisal. In Global Urban Development 4 (1)، هنا